عندما تخمد الشرارات في الليل البهيم

TT

سوف أنقلكم اليوم إلى جو مختلف عبر (أب) ودع ابنه الذي التحق بالجيش، ومنه إلى ميدان القتال، ويقول عن يوم وداعه وفراقه له ولأمه: «لم تكن هناك موسيقى، ولا احتفال، ولم يكن التوديع مسرحيا، بل نفخت سيارة في الخارج في بوقها»، فقال: «أحسب أن هذا لي» وتناول حقيبته، وقالت أمه: «لعلك لم تنس قفازيك؟» فقبلها، ومد يده إلي، وقال: «وداعا» فصافحته وكان كل ما استطعت أن أقوله هو: «أتمنى لك حظا حسنا».

وارتد الباب، وانتهى الأمر - وذهب ولد آخر لنا إلى الحرب.

وبعد أن أغلق الباب وراءه صعدت إلى الغرفة التي كانت له، وكان اضطرابها فوق المألوف، فقد كانت الثياب مبعثرة، وأحذية الرقص، ومضرب التنس، واسطوانات، ورسائل، ودعوات إلى سهرات لن يتسنى له الآن أن يشهدها.

ثم قصدت إلى غرفتي، وكان على الحائط صورة طفل صغير يفتر ثغره الضاحك وتتلوى خصل شعره - هو نفس الصبي الذي صافحني منذ برهة وقال: «وداعا»، وخطر ببالي أنه لم يمض وقت طويل بين رسم هذه الصورة وإغلاق الباب.

وإذا بشيء غريب يحدث - فقد اكتسبت الأشياء الحياة، وصارت تهمس في أذني، وامتلأ البيت بالأصوات الرقيقة، واجتذبتني إلى غرفة عليا - إلى صندوق من الجنود الخشبية، وخوذة كرة، وقيثارة وصور باهتة، رسمت إحداها في اليوم الأول المذكور الذي لبس فيه البنطلون الطويل. فقعدت وذهبت أفكر في الزمن كيف يمر خطفا. لقد كنت أضمه بين ذراعي أمس فقط، فيما أحس. وأذكر في هذا ما كنت أقرعه به، وأعظه وأحثه على الفضيلة والحكمة اللتين لا أتحلى بهما أنا.

وفكرت أيضا في قولي له: «أتمنى لك حظا حسنا» بصوت لا يكاد يسمع، وتمنيت لو أني استطعت أن أبين له مبلغ حبي. أفتراه تبين ذلك على الرغم من تحفظي.

ثم قلت لنفسي: «ما أعمقنا مع بنينا!، لا نزال ندبر أمر مصيرهم، ونضع المشاريع لمستقبل لا يجيء أبدا، ويستغرقنا التفكير فيما عسى أن يكونوا في غدهم ولا نتقبلهم أبدا كما هم.

والآن يا ذا الخصل الملتوية، قد صرت رجلا. ولقد شق علي أن أراك تمضي، ولكني ما كنت لأثنيك عن الذهاب لو أني قدرت. ولست أزعم أني غير حزين ولكني فخور أيضا. فوداعا يا بني».

وبعد ذلك بعدة أشهر يتلقى الأب برقية (تقليدية) جاء فيها بكل بساطة: «إن وزير الحربية يود أن يعرب عن أسفه العميق لأن ابنك مفقود..».

يصعق الأب ولكنه مع ذلك يتماسك ويكتب مخاطبا نفسه ويقول: «في وسعك أن تتشدد لتلقي هذه البرقية، وتستطيع على نحو ما أن تتهيأ لها، ولكنها مع ذلك ترجك، وتدفع قدميك عن الأرض، غير أن هناك عملا يعمل، ولا بد من الاستمرار. وخليق بالفتى الذي لحق بالسحب أن يحقرك إذا غيرت نهجك أو أدرت ظهرك، فما فعل هو ذلك.

وسيكبر صبيان آخرون ويزدادون قوة وجمالا لتخمد حياتهم كالشرارة في الليل البهيم، وتذكارهم هو معين الخير الدفين العميق الذي يكشف عنه ذهابهم».

[email protected]