صوت البسطاء

TT

الذي يقول للبنانيين ان لا بد من وضع نهاية لكل ما حدث واتخاذ طريق جديد والبحث عن نقاط الاتفاق، برغم قلتها، والبعد عن نقاط الخلاف، برغم وجاهتها – من يقول ذلك هو واعظ لا يريد ان يقول شيئا، وهو يريد ان يرضي الجميع، ومن يحاول ارضاء الجميع لا يرضي احدا.

حسنا؟ ما هو البديل اذا؟ القول بأنه يجب دفع البلد إلى ابعد من الهاوية التي يقف على شفيرها؟ السياسة صراعات لا قناعات. ملاكمة مستمرة تكثر جولاتها أو تقل. احيانا تربح بالنقاط واحيانا بالضربة القاضية ولكن يخسر الفريقان فقط عندما يتعب الجمهور، ولا يعود يطلب رأي الحكم، بل الخلاص.

السياسة اللبنانية غير خاضعة للقوانين والاحكام وضربات الجزاء. ليس من اليوم ولا من امس، بل منذ ان قامت على مبدأ الغلبة لا على مبدأ التوازن والتعادل. بعد 1958 رفع الرئيس صائب سلام شعار «لا غالب ولا مغلوب»، كما رفع شعار «لبنان واحد، لا لبنانان». لكن بعد حرب 1975 لم يعد أي من الشعارين ممكنا. اختلفت النظرة إلى النظام واختلفت قواعده وموازينه، وصار الهاجس والخوف هو العودة إلى الانفجار، لأي سبب أو لأي قضية.

ولذلك ابقي الدستور شاهدا ضعيفا على صراع اقوياء وضعفاء. وهو يحاول الا يحكم للقوي لكنه ايضا لا يستطيع ان يحكم للضعيف، أن لا فائدة من ذلك. هكذا ارتضى لنفسه ان يظل هو الإطار المتزعزع بدل ان يتدافع اللبنانيون نحو حلبة الملاكمة الثابته والجاهزة في الانتظار.

وقد يكون من الجبن الوقوف دائما إلى جانب المصالحات، لكنه جبن افضل بكثير من شجاعة التفجير والعبث واطلاق العنان للغرائز والاحتقان والضغائن وشهوة العودة إلى الخنادق. ونتمنى ان يوفق نجيب ميقاتي إلى حكومة، لا تعبر عن اللبنانيين، لأن هذه استحالة، ولكن تعبر عن لبنان كوطن مأزوم ودولة مهددة وشعب ينقله زعماؤه من مكان إلى مكان ومن موقع إلى موقع.

هذا كله كلام عام ورومانسي ولا يرتضيه منطق الصراعات ودأب السياسات. لكن جدته في ان جميع اللبنانيين يقولونه في سرهم. وجميع العرب. لعد تعب لبنان وأتعب. والعرب الذين اعتادوا معاركه وحروبه، مذهولون اليوم امام الساحات المفتوحة في كل مكان. ولم يعودوا يعرفون ايها الأكثر خطورة على أمن الأمة.

وهذا ايضا كلام عام. لكنه لم يكن خاصا في اي زمن مثلما هو الآن. انه يعني مستقبل كل عربي في كل مكان. فلم تعد هناك قضايا خاصة وقضايا عامة. ولم تعد هناك خواصر رخوة وخواصر شديدة. ومشكلتنا أو مأساتنا اننا لم نسمع قبل الآن الكلام العام والعادي والبسيط. واعتقدنا ان البسطاء يقولون كلاما ساذجا ولا طائل تحته. وكان ذلك خطرا، لا خطأ.