الانسدادات والمأزق

TT

هذا الذي نراه في المنطقة اليوم هو تعبير عن استحالة استمرار الانسدادات التي عاشتها المنطقة العربية زمنا طويلا عندما كانت الأولوية الوحيدة هي الأمن. ظلت المنطقة دون أجزاء العالم الأخرى تعيش زمن الحرب الباردة بعد عشرين عاما من انقضائها. وبسبب ذلك فإن جدران برلين الشرق أوسطية بدت راسخة وغير قابلة لأن تتزحزح لأن أي تغيير من شأنه أن يقلب موازين القوى. في معظم مناطق العالم الأخرى، كان الاقتصاد والرفاه الاجتماعي والتنمية هي القضايا الأساسية في أجندة النقاش، فقط في منطقتنا تظل الحرب القائمة أو التي قامت أو التي يحتمل أن تقوم هي موضوع النقاش. ولذلك بقيت الدول العربية تعيش على الدوام حالة من الترقب والخوف من صراع وشيك، وتدريجيا اعتادت على هذه الحالة فتحولت هي القاعدة لا الاستثناء. وفي منطقتنا وحدها هنالك قوانين طوارئ وأحكام عرفية تتواصل لعقود وتصبح جزءا طبيعيا من حياة المجتمع.

السبب الرئيسي هو مركزية المنطقة في الجيوبوليتك العالمي، حيث موارد الطاقة الهائلة التي مثل تدفقها السلس أعلى هموم القوى الكبرى. خلال الحرب الباردة نجحت دول المنطقة في التكيف مع صراع القطبين والمناورة بينهما للحصول على المكاسب، وبدا أن الشرق الأوسط ثمين جدا لكي تدفعه أي من القوتين العظميين للانفجار، وهو ما استثمرته بعض الأنظمة ليصبح الاستقرار هو مبرر وجودها الأساسي. صعود الأصولية الإسلامية كان إلى حد كبير تعبيرا عن الانسداد الاجتماعي وغياب الديمقراطية وإيقاف الحراك السياسي، ونفس هذا الصعود تم استثماره للقول إن البديل الإسلامي الراديكالي هو الوحيد، وبالتالي لا بد من مواصلة منح الاستقرار أولوية كبرى. غير أن الاستقرار كان يترجم على الأرض إلى كبت وتعطيل للحراك الاجتماعي وإغلاق لسبل التواصل بين أنظمة صارت تقدم الأمن على أي اعتبار آخر، وشعوب لا تعرف من الدولة أكثر من رجل الأمن.

الانسداد المستحكم باتت تكلفته عالية جدا، فالشعوب تضخمت ديموغرافيا والشباب الساعي للعمل وإلى حياة أفضل باتوا يشكلون الشريحة الاجتماعية الأكبر. والأنظمة أمام بديلين في التعامل معهما، إما توفير فرص العمل والشروط الحياتية الملائمة لهم، أو تقوية أجهزة الأمن والقمع من أجل منعهم من التمرد، ومستقبل حكومات المنطقة سيعتمد إلى حد كبير على أي بديل تختاره.

إن تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي يبدو مهمة صعبة لأنظمة ظل «الأمن» هو محور اهتمامها، ومثل هذا التحسين سيتطلب إجراءات هيكلية قد يكون أحد متطلباتها تقليل النفقات على الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتقليص حجم تلك الأجهزة. لكن مثل هذا الإجراء سيقلل من إحساس تلك الأنظمة بالأمن ويعزز من فرص التمرد عليها الذي قد يأتي من ذات الشباب الغاضب وربما من الجيش أو أجهزة الأمن نفسها إذا ما شعرت بأنها أخذت تفقد بعض امتيازاتها. إنها معادلة صعبة جدا، فتلك الأجهزة صنعت من أجل أن تمنح الأمن للأنظمة، لكن بمرور الوقت ومن كثرة الاعتماد عليها صارت تلك الأجهزة مصدر بقاء النظام نفسه وصارت تعتاش على وجوده بقدر اعتماده على وجودها.

لذلك حتى مع حسن النية سيفضل البعض اعتماد الأساليب القديمة واللجوء للقوة من أجل إعادة فرض «الاستقرار»، ولكن تكلفة ذلك ستكون كبيرة لأن الأساليب القديمة لم تعد تتلاءم مع الحقائق الجديدة. فهنالك إشارات على أن «المجتمع الدولي» لم يعد يشتري بضاعة المنطقة السياسية، أو بالا حرى لم يعد مستعدا لدفع ذات الثمن الباهض لها. وبالتالي، فإن الغطاء الدولي للقمع كخيار وحيد أخذ يتراجع، ويرتبط ذلك أيضا بحقيقتين؛ الأولى هي أنه في عصر تكنولوجيا المعلومات والإنترنيت باتت التغطية على مثل هذه الإجراءات شبه مستحيلة، وبات سياسيو الغرب والشرق يترددون مرات كثيرة قبل اللجوء إليها أو تأييد من يلجأ إليها بسبب تكلفتها السياسية والأخلاقية وربما القانونية.

والحقيقة الثانية، أن أعداد المحتجين والغاضبين الذين ليس لديهم شيء يخسرونه هي أعداد هائلة تعكس التضخم الديموغرافي الذي شهدته المنطقة، وحقيقة أن الشباب المحبط يمثل شريحة كبرى وميالة إلى التمرد. وبالتالي، فإن اللجوء للخيار الأمني يعني الاستعداد لقمع واسع النطاق قد ينتهي إلى كارثة إنسانية ربما لا تؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقان.

في جميع الأحوال تبدو المنطقة وشعوبها وأنظمتها أمام مفترق طرق كبير، وليس هنالك طريق محدد ووصفة جاهزة للخروج من المأزق، كل الخيارات لها أثمان كبيرة وربما مؤلمة، لكن الشيء الأكيد أن العودة للانسدادات القديمة ستكون الخيار الأكثر إيلاما والأقل فائدة.