من ذاكرة الركض في شارع الصحافة

TT

حينما كنا صغارا نطرق أبواب صاحبة الجلالة الصحافة، قررنا كمجموعة مبتدئة أن نركض في شارعها، ومن يومها وبعضنا لا يزال يركض في نفس المضمار، والآن إذا نظر الواحد منّا أمامه وجد أن البعض سبقه، وإذا نظر خلفه وجد أنه قد سبق آخرين أيضا، وكأن ما بين الفوز والخسارة مجرد التفاتة.

أغراني ذلك التأمل على أن استحضر ورقة وقلما، وأضع أسماء بعض المتسابقين: عمران ـ وهذا ليس اسمه ـ قرر أن يطرق بوابة الصحافة الاقتصادية في ذلك الزمن الذي كانت فيه الصحافة لا تحتفي من أخبار الاقتصاد بغير إعلانات مخططات الأراضي، وبعضها وهمي بطبيعة الحال، وفتح الله بعد ذلك على عمران، فحينما هبت رياح الطفرة في عقد السبعينات من القرن الماضي كان يمتلك «دستة» من قطع الأراضي التي اشتراها بأسعار «تشجيعية»، وتحول رياله بقدرة قادر إلى ألف، وألفه إلى مليون، فراح يواصل الركض في مضمار آخر بعيدا عن صاحبة الجلالة، متوجا اسمه بلقب «الشيخ», وغدت العلاقة بينه وبين بعض زملائه القدامي في مضمار الصحافة أخبارا تلميعية تشهدها زوايا المجتمع وصفحات الرأي. يقولون إن الحياة تقلبت بعمران، فخسر في سوق الأسهم ثروته التي جمعها من تجارة التراب، آخر مرة شاهدته فيها قبل شهور، كان رث الثياب، منكسرا كراية مهزومة، وهو يعتصر آخر الدموع في إبريق الشاي في مقهى عتيق داخل البلدة القديمة، وحينما جفف عروق الإبريق، راح «يطرقع» أصابعه، وهو يعد بصوت مسموع من واحد إلى عشرة: واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة!

أهم الراكضين كان صديقي الصحافي محمد مسلم الفايدي، وهذا قصته قصة، وحكايته حكاية، فهذا الرجل كانت دواخله ظمأى إلى شيء من الضوء، فأحرقوا دمه، وهم يرددون على مسامعه «إن الخط المستقيم هو أقصر طريق بين نقطتين»، ومن يومها وهو لا يذهب إلى بيته إلا من طريق واحد فقط، هو الطريق المستقيم، لا يأكل إلا من رغيف واحد فقط، هو الرغيف المستقيم، ولم تتسع ساحة الصحافة في ذلك العهد لصحافي يبحث عن الحقيقة كاملة، فركلته إلى منحنيات جانبية، ليعمل بقالا في شارع الصحافة حينا، وسائق تاكسي حينا آخر، حتى استقر به الأمر موظفا في شركة توزيع الصحف، فبينه وبين حبر هذه الصحف «عيش وملح وهزائم وانتصارات»، ومع هذا لا يجد اليوم من ينشر له مقالا إذا فاض به الكيل، ونفد مخزون صبره من السكوت إلا بقايا أصدقائه القدامى في شارع الصحافة، وهو الذي كانت زاويته «ترانزيستر» تتوسط الصفحة الأخيرة على مدى أعوام في واحدة من أهم الصحف.

يتقدم مجموعة الركض كفاءة واستحقاقا الزميل الصحافي علي خالد الغامدي الذي شكل من خلال عمله السابق كمدير لتحرير صحيفة المدينة مدرسة تعلم وتخرج فيها الكثيرون، ومن أقواله أن ثلاثة لهم شعبيتهم الطاغية لكنهم يفتقرون إلى الحظوظ: نادي الاتحاد، وطلال مداح، وصحيفة «.....»، فهل هم ثلاثة فقط يا صديقي الرائع؟

[email protected]