مصر: باقي من الزمن دقائق

TT

وأنا أمشي بين الدبابات من مجلس الشورى في شارع قصر العيني إلى مبنى التلفزيون ووزارة الخارجية على النيل المواجه للزمالك. تذكرت إطلالة لي كانت على هذه المنطقة من مكتب وزير الخارجية المصرية منذ عام حيث رأيت ذات المشهد كما يراه أي إنسان يستطيع أن يشم السياسة شما ولا يدرسها فقط. إذا ما نظرت من مكتب وزير الخارجية، كانت أمامك ثلاثة صور لمصر؛ بولاق على يسارك وهو حي شعبي غارق في الفقر، إذا ما دخلته تحس أنك في غزة، وعلى اليسار حي الزمالك الراقي، وأمامك مبنى التلفزيون الذي كان البعض يسميه مركز ريادة مصر الإعلامية، لكن مهمة التلفزيون كان إنتاج حاجز من الأكاذيب يمنع جماعة بولاق من الهجوم على الزمالك، وبالأمس رأيت حاجز الكذب ينهار، عندما خرجنا بالليل على الكوبري الموصل من الزمالك إلى بولاق وقابلنا أناسا يرفعون السيوف والسنج والهراوات، على مقربة من قوات الصاعقة المصرية المرابطة إلى جوار الخارجيه والتلفزيون، أدركت يقينا أن حاجز الكذب بين مصر بولاق ومصر الزمالك قد انهار، ومعه قد ينهار أكبر بلد في العالم العربي إن لم تتخذ إجراءات عاجلة وسريعة جدا.

مشكلة مصر اليوم ليست في المتظاهرين في الميادين العامة، ولا حتى في السرقات والبلطجة المحدودة، فالموقف يمكن السيطرة علية «تحت». تقييمي أن مشكلة مصر اليوم «فوق»، في القيادات الحاكمة التي لم تحسم أمرها في اتجاه استراتيجي واضح، قرار صارم ينقذ مصر الوطن، وينقذ استقرار الإقليم. ما لاحظته في مصر خلال الإيام القليلة الفائته هو منذ بداية المظاهرات، وتأخر الرئيس في الحديث إلى شعبه، وانسحاب قوات الشرطة ووزراة الداخلية فجأة، وعدم رغبة الجيش في أن يستعرض قوته، وظهوره في الفاصل الرئيسي في البلد فقط، حتى تعيين عمر سليمان نائبا للرئيس وتغيير الوزارة، كل ذلك يوحي بأننا أمام عقل تكتيكي، وليس عقلا استراتيجيا، كما أننا أمام حالة من العناد، لا حالة مساومة سياسية وعقد صفقة سريعة لإنهاء الموقف والوصول بالبلد إلى بر الأمان. مصر تحتاج إلى توجه استراتيجي جديد. وهنا يجب على كل من يعرفون من هم مفاصل السلطة في مصر اليوم، أن ينصحوهم بأن يحسموا خياراتهم. والخيارات محدودة، أولها أن يظهر الجيش ويعلن استيلاءه على السلطة بشكل مؤقت وينزل بكل قوته في استعراض واضح للقوة، معلنا نفسه كراع للعملية السياسية وحكما، عملية سياسية يكتب قصتها المصريون الأحرار بأنفسهم.

أما الخيار الثاني، فهو أن يتسلم عمر سليمان الرئاسة، ضامنا للرئيس مخرجا آمنا، فلا يجب أن يكون الثأر هو الدافع. ولكن وقت شرعية عمر سليمان الآن محدودة، إذ يبدو أن لديه رصيده، ولكن هذا الرصيد محدود وقد ينفد خلال يومين، إن لم يتحرك.

أيضا متى ما تسلم عمر سليمان، عليه أيضا أن يعلن أنه رئيس لفترة محدود جدا لا تتعدى ستة شهور أو عام ليرعي عملية إعادة صياغة الدستور وانتخابات حرة نزيهة على منصب الرئيس ومنصب رئيس الوزراء، ومجلس الشعب. وأتمنى أن يصل المصريون إلى قناعة توصلهم إلى نظام برلماني مثل بريطانيا وليس نظاما رئاسيا كما هو الحال اليوم. أمام عمر سليمان والجيش وقت قصير جدا في حسم خياراتهم، فإن لم يقرروا بسرعة، ستصبح مصر في مهب الريح. الأزمة في مصر ليست تحت يميدان التحرير، الأزمة فوق، عند الجيش والرئيس، إن لم تحل الآن، سينظر أبناء البلد لمن عرض أموالهم الخاصة وحياتهم إلى الخطر على أنهم خونة، ولا أتمنى أن تلطخ سمعة الجيش من قريب أو بعيد بمثل هذه الصورة.