ماذا بعد نجاح إيران وسورية في إقصاء الحريري؟

TT

في الصراع، بين فريق 14 آذار وفريق 8 آذار في لبنان، المحتدم منذ خمس سنوات، كسب الفريق الأول عدة جولات، وخسر الجولة الأخيرة، مع خسارته الأكثرية النيابية، التي أدت إلى تكليف نجيب ميقاتي بتأليف الحكومة. ولقد كتب الكثير عن الأسباب التي مهدت لهذه الخسارة وأهمها: انقلاب وليد جنبلاط على الفريق الذي خاض معه معركة استعادة الاستقلال، وإصرار حزب الله وسورية وإيران من ورائه على تعطيل المحكمة الدولية، وجو الخوف من تهديدات حزب الله، واستقالة وزراء الثلث المعطل، وفتور الدعم الإقليمي والدولي لفريق 14 آذار تبعا للاجتهاد السياسي الدولي الجديد الهادف الى «كسب سورية» أو «إبعادها عن إيران»، وغيرها من العوامل والحسابات الطائفية والمذهبية والشخصية الداخلية والخارجية.

ويبقى السؤال: ماذا بعد أن كسبت «المعارضة» هذه الجولة الأخيرة، وأبعدت سعد الحريري عن رئاسة الحكومة؟

من شبه المؤكد أن الرئيس ميقاتي المكلف بتأليف الحكومة لن يقنع الأكثرية السابقة بالمشاركة في حكومة «وفاق وطني»(؟!) جديدة، إلا إذا أعطوا الثلث المعطل. وإن هؤلاء، إذا شاركوا، سيقومون بالدور نفسه الذي لعبه معارضو الأمس معهم، أي تعطيل أي قرار يعتبرونه مناقضا لمواقفهم الوطنية والسياسية. كما أنه من المستبعد تأليف حكومة من لون واحد، كتلك التي كانت تؤلف في عهد الوصاية السورية. ومن هنا فان الاتجاه سيكون - بعد تعثر قد يستغرق أسابيع أو أشهر (على الطريقة العراقية) تأليف حكومة حيادية من شخصيات تكنوقراطية لا تنتمي إلى أحزاب سياسية متخاصمة. ولكن ما الذي تستطيعه مثل هذه الحكومة بالنسبة للاستحقاقات الكبيرة القادمة وعلى رأسها القرار الاتهامي والمحكمة الدولية، وسلاح حزب الله والأحداث الكبيرة التي يبدوان المنطقة مقبلة عليها؟!

مما لا شك فيه هو أن المسلمين السنة في لبنان يشعرون، وبعمق، أنهم كانوا المستهدف الأول في هذا الانقلاب السياسي، وأن رئيس الحكومة السني الذي يفترض أن يمثلهم في الحكم ليس هو من اختاروه بشبه إجماع في الانتخابات الأخيرة، بل إن من اختاره هم ممثلو الطائفة الشيعية وقسم من ممثلي الطوائف المسيحية وبضغط من سورية وإيران. كما أن قسما كبيرا من اللبنانيين يشعرون بأن الانقلاب السياسي – الطائفي المذهبي، على اتفاق الطائف، ينفذ تدريجيا، وأن «مصلحة المقاومة» عادت، كما في السبعينات، تتقدم على مصلحة لبنان، كدولة ومؤسسات، بل كشعب وكوطن. وتلك هي الخطوة الأولى نحو انفراط الوحدة الوطنية وتعميق الانقسامات الطائفية والمذهبية.

وتفكك لبنان قبل تغيير نظامه أو تقسيمه.

نعم، لقد دخل لبنان، فعلا لا قولا، في نفق مجهول النهاية. وهو نفق معتم ومليء بالعقبات والمطبات والعبوات المتفجرة التي يزيد من خطر تفجرها الأجواء النزاعية في المنطقة. إذ لا شيء في الأفق يدل على أن السلام في الشرق الأوسط سوف يتحقق، بل العكس هو المرجح. كما لا شيء يدل على أن العلاقات الإيرانية – الأميركية سوف تتحسن. أو أن إيران مقبلة على تغيير مشاريعها الإقليمية والمذهبية. ولا أن سورية سوف تنقض حلفها مع إيران ولا أن تنفض يدها من لبنان. ولا أن «الأكثرية الجديدة» المؤلفة من حزب الله وحركة أمل والعونيين، ستتوقف عن العمل لنقض اتفاق الطائف والتوصل إلى صيغة جديدة للحكم في لبنان تقلص دور رئاسة الحكومة السنية في الحكم. ولا أن يتخلى حزب الله عن سلاحه الذي يلقي بثقله - وأي ثقل - على اللعبة السياسية في لبنان.

لماذا وصل لبنان إلى ما وصل إليه، وكان من قبل، البلد العربي الهانئ والمرموق بل المحسود؟ لا شك في أن وجوده على حدود إسرائيل، أي في قلب الصراع العربي - الإسرائيلي، هو السبب الأساسي. كذلك جو الحرية فيه الذي جذب إليه كل مشاكل ونزاعات المنطقة، بالإضافة إلى أن الأحزاب والسياسيين اللبنانيين ربطوا مصالحهم الشخصية والحزبية مباشرة بهذه الصراعات، وما زالوا. وإن السياسة الأميركية الخاطئة في المنطقة (ومحورها دعم إسرائيل وتقديم مصالحها على كل الاعتبارات والمصالح العربية وحتى الاميركية) كانت من أهم أسباب إيهام القوى السياسية الديمقراطية الوطنية المعتدلة، كما ساهمت في إعطاء القوى السياسية المتطرفة أسباب اجتذاب الجماهير ولا سيما الأجيال الطالعة، إليها.

في الواقع ليس لبنان وحده من دخل النفق المظلم. بل هناك أكثر من بلد عربي تغلي فيه الأوضاع السياسية، في مشرق العالم العربي ومغربه وشماله وجنوبه. والدول الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة، باتت لا تعرف «على أي رجل ترقص» (كما يقول المثل الفرنسي): هل تراهن على الديمقراطية وبالتالي تشجع سلبا أو إيجابا، حركات تغيير الأنظمة عن طريق الانتفاضات الشعبية؟ أم «تنفتح» على الدول التي تعتبرها «مارقة أو عاصية»، كإيران وسورية وغيرهما؟ أم تنفض يدها نهائيا من العالمين العربي والإسلامي، بعد تجاربها غير الموفقة حتى الآن في العراق وأفغانستان وباكستان والدول العربية «الصديقة»؟

في خضم هذه الحالة الدولية والإقليمية الراهنة، يجد اللبنانيون أنفسهم في قارب صغير تتقاذف به أمواج عاتية تدفع وطنهم نحو شواطئ مجهولة أو نحو صخور محدقة. ولسنا نرى كيف ستتمكن الحكومة اللبنانية العتيدة، أيا كان شكلها، من إنقاذ المركب اللبناني من الغرق أو التحطم. اللهم إلا إذا هدأت العواصف التي تهز المنطقة والعالم. إلا إذا تحقق السلام بين العرب وإسرائيل. إلا إذا تخلت سورية عن «رعايتها» - والبعض يقول «عقدتها» - اللبنانية. إلا إذا تخلت إيران عن مشروعها السياسي المذهبي في المنطقة. ولسنا نرى هذه «المعجزات» سهلة أو قريبة التحقق.