حول الواقع العربي

TT

«ما هي أفضل الحكومات؟ إنها تلك التي تتيح لنا أن نحكم أنفسنا»

(غوته)

وسط الأحداث المتلاحقة على شارع عربي محبط وناقم... تتنازعه مشاعر شتى، كان من أهم منجزات «انتفاضة تونس» أنها أعادت تعريف دور «الحكومة».

نعم الحكومة.

الحكومة، من حيث هي سلطة تنفيذية مسؤولة أمام الشعب، الذي يفترض أنه يتمثل بسلطة تنفيذية منتخَبة بطريقة حرة ونزيهة، وتحت رقابة سلطة ثالثة مستقلة عن سابقتيها هي سلطة القضاء، الذي لا تعلو على كلمته كلمة ولا يرقى إلى عدله وتجرّده لشك.

إصرار الشعب التونسي على إبعاد رموز النظام السابق عن المناصب السّيادية الحسّاسة في «الحكومة الانتقالية» كان في محله، ليس لأن هؤلاء كانوا عناصر مؤثرة في بنية «حكم رئاسي» مطلق تعامل على الدوام مع «الحكومة» – أو مجلس الوزراء – كمجرّد «ختم» رسمي لإرادته، بل لأن الوقت قد حان لأن تقوم في البلاد حكومة حقيقية تتحمّل مسؤولية عملها أمام المواطنين، ولا تكتفي بتلقي الأوامر... من فوق.

في مصر كان رد الفعل الأول للرئيس حسني مبارك على «جمعة الغضب»، بعد انتظار طويل، هو الطلب من الحكومة الاستقالة... وهذا مع أنه يعرف جيدا أن «الحكومة» لم تكن «تحكم» وحدها.

وفي لبنان يعمل رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي، حاليا، على تشكيل «حكومة»، يقضي المنطق والحق بالإقرار سلفا بأنها ممنوعة من «الحكم»... في ظل سلاح «حزب الله» الذي غدا الحاكم الفعلي للبلاد، والوصاية المباشرة لسورية وإيران، والتواطؤ المستور – المكشوف لبعض المجتمع الدولي.

والشيء نفسه، ينطبق على اليمن وسورية والجزائر والسودان وغيرها من «الجمهوريات» العربية ذات نظام «الحكم الرئاسي»، حيث الحكومات هيئات تمثيلية لمكوّنات تنظيمية... من المفيد وجودها لتحميلها المسؤولية عند الضرورة.

هنا قد يقول قائل «ولكن أو ليس في دول كبرى كفرنسا والولايات المتحدة نظام «حكم رئاسي» أيضا؟». وهذا صحيح. لكن في البلدين مدة الرئاسة محدّدة، ويوجد فيها استقلال كامل بين السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) يتيح توازن الحكم والرقابة عليه سياسيا وقضائيا. وهذا واقع، مع الأسف، غير مطبّق في «جمهوريات» العالم العربي.

على صعيد آخر، في صميم أصول الحكم في الدول المتقدمة معاملتها كل فرد من أفراد شعبها كمواطن أولا وأخيرا، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات مع أي مواطن آخر مهما بلغ شأنه ومهما تضخّمت مكتنزاته.

وانطلاقا من هذا الاعتبار الأخير، وأولوية «المواطَنة الحقة» على ما عداها، لا يعود جائزا الاستمرار بـ«تقديس» الحدود الإقليمية الجامدة، ذلك أن مصلحة المواطن وشعوره بالطمأنينة والحق بالتعبير عن نفسه وبيئته يأتيان قبل التقسيمات الإدارية الموروثة وخطوط الحدود الاعتباطية.

هذه ناحية مهمة جدا، يظهر أن كثرة من النخب الحاكمة في عالمنا العربي، ولا سيما في الدول العربية ذات التعدّدية الطائفية والعرقية واللغوية، لا تتفهمها ولا تقدّر حجم المصلحة باحترامها. إن معظم دول العالم المتقدمة، من الولايات المتحدة وكندا، إلى أستراليا، مرورا بألمانيا وسويسرا وروسيا الاتحادية (بل حتى الاتحاد السوفياتي السابق) وغيرها، دول «اتحادية» أو «فدرالية» تقوم على احترام حقوق الأقليات - بمختلف أشكالها - ومخاوفها وأحلامها.

أما نحن، وبالرغم من إخفاق تجارب الطمس والمكابرة في العراق «البعثي» والسودان «البشيري»، نواصل عادة دفن الرؤوس في الرّمال، بل والهروب إلى الأمام، عبر اللعب على التناقضات الدينية والعرقية واللغوية. وفي بعض «جمهورياتنا»، المفترض أنها واعية تماما للتركيبة التعدّدية لكياناتها، ابتكرت القيادات الحاكمة - بالتعاون مع جهات أخرى - «فزاعات»، منها الديني ومنها الطائفي المذهبي ومنها العرقي اللغوي، لابتزاز المواطن وضمان استسلامه للأمر الواقع خشية «الفتنة» و«التطرّف».

الحقيقة التي يجب المصارحة بها هو أن هذا الابتزاز سيف ذو حديّن. فالإصرار على استغلاله سلاحا في وجه الإصلاح السياسي، يزيد التطرف استفحالا وصدقية، ويقرّب موعد صحوة «الفتنة» النائمة. ثم أن مواصلة اعتبار الصيغة «الاتحادية» («الفدرالية») أو «اللامركزية الإدارية» خطوة باتجاه التقسيم هو خير وسيلة لاستجلاب التقسيم. إن الضغط يولّد الانفجار، وأفضل بديل لما شاهدناه مع نموذج جنوب السودان، وما يمكن أن نشهده في أماكن أخرى من العالم العربي، هو اعتماد «لامركزية إدارية» أو «فدرالية» ناجزة - طبعا - في ظل التنمية المتوازية واحترام حقوق المواطنة.