تكلفة التغيير في مصر

TT

محقون الذين يقولون إن مصر بعد 25 يناير، تاريخ بدء المظاهرات التي تطالب بالتغيير السياسي، ستكون غير المرحلة التي كانت قبلها، وإن كانت تكلفة التغيير الذي تطالب به الاحتجاجات تبدو فادحة اقتصاديا حتى الآن..

وكما فوجئ كثيرون في العالم، وحتى المصريون أنفسهم، بالبعد الذي أخذته حركة الاحتجاج في بلد كان يبدو مستقرا ومؤسساته قوية إلى حد كبير، فإن ما يحدث في الأسواق الدولية على صعيد أسعار النفط والأسواق المالية دليل على الأهمية الاستراتيجية للبلد نفسه والمخاوف من حالة عدم استقرار قد تطول وهو ما لا يتمناه أحد.

بخلاف الخسائر في الأرواح التي حدثت، فإن الخسائر الاقتصادية كبيرة، ولا تخطئها عين، سواء على صعيد الخسائر التي منيت بها الأسهم في البورصة المصرية، أو الشلل في النشاط التجاري والاقتصادي مع توقف الأعمال تقريبا، والإغلاق الطويل للبنوك أو لشبكة الإنترنت التي أصبحت محورية في عالم اليوم لممارسة أية أعمال أو أنشطة اقتصادية، أو على صعيد الخسائر التي حدثت في الممتلكات وبعض المرافق العامة من عناصر مخربة استغلت الاحتجاجات السياسية التي يبدو جمهورها بعيدا عن التخريب.

هذه الخسائر مؤقتة ويمكن تجاوزها في حالة عودة الأمور إلى طبيعتها، لكن الخسارة الأكبر في الصورة الأشمل على المدى الطويل هي في مناخ الثقة، وهو العامل الأساسي في أي قرارات لجذب استثمارات أو شركات أو أعمال لخلق وظائف وإنعاش الاقتصاد. فقد احتاجت الحكومات المصرية المتعاقبة في العقود الثلاثة الأخيرة إلى جهود مارثونية لإقناع المجتمع الدولي والشركات والمستثمرين (محليين ودوليين) بأن هناك سوقا واعدة مستقرة وفيها بيئة مناسبة للاستثمار والأعمال. وكان هناك جدل دائم حول أيهما يسبق الآخر الإصلاح الاقتصادي أو السياسية، وأثبتت الأحداث أنه يجب أن يكونا متوازيين.

وفي بلد نام يعد تحديث وتنمية الاقتصاد فيه أولوية حياتية، فإن المهمة ستكون صعبة أمام أي حكومة مقبلة، فقد راقب العالم بذعر الانهيار الأمني والمؤسساتي، والفراغ الذي حدث ولم تتحرك الأجهزة المعنية لسده بسرعة، وهو ما سيكون ماثلا في ذهن الشركات والمستثمرين وحركة السياحة، وسيحتاج إلى جهد قد يستغرق سنوات لتصحيحه وإزالة تأثيره من الذاكرة. فدول كثيرة في العالم تمر باضطرابات أو أزمات وتظل مؤسساتها خاصة المالية والتجارية قادرة على العمل ولو جزئيا بدون أن تدخل في شلل تام لفترة طويلة.

إزالة تأثير ذلك قد يستغرق سنوات طويلة أو فترة قصيرة، يتوقف ذلك على شكل المعالجة فإذا سارت الأمور في اتجاه يعالج جذريا حالة الاحتقان التي حدثت وسببت خروج الاحتجاجات بشكل مؤسسي يضع البلاد على طريق مستقبلي يؤمن أدوات تنفيس لبخار الغليان قبل حدوثه، ويعطي شعورا بأن هناك تقدما إلى الأمام، من المؤكد أن المستثمرين سيعودون بشكل أقوى وأكبر، والسيناريو الأسوأ هو الجمود ودفن الرؤوس في الرمال.

لقد دفعت مصر الفاتورة مقدما وهي باهظة، ولا يصح أن تضيع هباء. وبالتالي فإن هناك مصلحة عامة سواء بالنسبة إلى الحكومة أو المعارضة في أن يكون هناك اتفاق على طريق واضح للخروج من الأزمة والتصحيح بشكل مقنع للمحتجين الذين يخرجون كل يوم منذ أسبوع تقريبا، بأن هناك مجالا لتطلعاتهم، ولإشعار العالم بأن هناك رؤية للمستقبل ورغبة مشتركة في عدم الوقوع في فخ الفوضى.

هناك علامات على بدء التغيير من خلال تعيين نائب للرئيس، وهي مسألة لها دلالاتها، لأنها تأتي قبل الانتخابات الرئاسية التي ستجري بعد شهور بما يعني أن سيناريوهي التوريث أو التجديد ليس لهما أساس حاليا، وكذلك تكليف حكومة جديدة من بين مهامها - حسب خطاب التكليف - فتح حوار مع المعارضة، والإصلاح السياسي، وأيضا حديث رئيس البرلمان عن تصحيح العضوية في ضوء بحث محكمة النقض للطعونات في الانتخابات الأخيرة. المهم أن يكون الإيقاع الحكومي متماشيا مع سرعة الأحداث، وأن تكون هناك استفادة من دروس ما حدث عند الإصلاح السياسي، ومحاسبة لأي متسبب فيما حدث من فراغ أمني وظواهر نهب وهرب سجناء. وقتها قد يكون ما حدث على المدى الطويل دفعة للمستقبل وتعزيزا أكبر للثقة. فكل دول العالم تقع في مشاكل وأزمات، لكن المحك أمام بقية العالم هو كيف يتم معالجة الأزمة.