زيجات اللغز اللبناني من الخلع إلى المساكنة إلى المتعة

TT

على رغم أن الفضائيات العربية عموما وبالذات الفضائيات اللبنانية لا تقصِّر في بث الحوارات السياسية الهادئ منها والهادر حول اللغز اللبناني وكيف أن الوضع السياسي في هذا البلد الصغير يستهلك النسبة الكبرى من ساعات البث للحوارات، فإننا نفاجأ بأصدقاء خليجيين يتصلون بين الحين والآخر طالبين تفسيرا لهذا اللغز الذي حارت البرِيَّة فيه لجهة انه الأصغر حجما الأكثر تنوعا المضطرب دائما وشاغل بال الأشقاء العرب عموما والأصدقاء الدوليين في بعض مواسم التدخلات والصراعات.. هذا إلى أنه المطموع به لكي يكون رأس حربة تفيد البعض العربي والإقليمي في المساومة. والذي يستوقف الأصدقاء السائلين هو هذه العلاقات المستهجَنة بين أطراف، والخصومات التي تستجد بين ليلة وضحاها بحيث أن صديق الأمس يصبح خصْم اليوم وبالعكس. كما يستوقف الأصدقاء في اللغز اللبناني هذه البحبحة في حرية التعبير إلى درجة أن المرء يحتار أحيانا وهو يصغي إلى بعض التصريحات والعبارات من جانب أطراف سياسية وحزبية هل إنه يسير في شارع لا رادع فيه لمن يتحدث تأدّبا أو شتْما، أو أنه أمام شاشة فضائية من تلك الفضائيات غير المستقلة عموما ومع ذلك فإنها تلتزم بالحد الأدنى من التأدب الكلامي، فلا تصل الحال بها إلى ما وصلت إليه فضائيتان تبثان برنامجا مشابها مادته الأساسية النكات الرذيلة ومن دون أن يتهيب النكَّاتون والنكَّاتات والطاقم الذي يقدم البرنامج أن عشرات الفتية والفتيات ممن هم دون العشرين من العمر هم الديكور البشري للبرنامج وما على هؤلاء سوى التصفيق والتهليل.

يا لهذه «التربية الفضائية» التي يستغرب المرء ارتضاء «الإصلاحي – التغييري» الجنرال ميشال عون الترويج لها من محطته الفضائية وكذلك ارتضاء ميشال المر (النجم الإعلامي نجل غبريال وليس النجم الوزاري إلياس ابن السياسي العريق ميشال) الترويج لها من محطته العائدة قبل اشهر إلى النشاط بعد طول احتجاب.

وشخصيا لم أستغرب حيرة أصدقائنا العرب عموما وبالذات الطيف الخليجي منهم، من اللغز السياسي اللبناني الذي أشير إليه. وذلك في ضوء الحديث الأبرز وهو إسقاط حكومة سعد الدين الحريري وتكليف النائب الحالي رئيس الوزراء الأسبق رجل الأعمال نجيب ميقاتي تشكيل حكومة جديدة، أو بالأحرى إسقاط حكومة الحريري لتكليف ميقاتي.

وكما أن الإسقاط كان لا مفر منه ما دام حدث نوع من التخلي السعودي عن التعاطي في شأن الأزمة اللبنانية بينما لا عقلاء يتفهمون، فإن الاستبدال - وبالذات اختيار نجيب ميقاتي وليس كما كان واردا ترشيح الرئيس الأسبق عمر كرامي - كان لا مفر منه ما دام ذلك يرضي الرئيس بشَّار ويحقق لـ«حزب الله» والجنرال ميشال عون النصر كل مِن خطة مدروسة. فالسيد حسن نصر الله يرفع بإسقاط حكومة الحريري معنويات جمهور الطائفة الشيعية المتعاطف مع الحزب بحيث لا تعود هنالك أصوات هامسة داخل هذا الجمهور تقول ما معناه: لماذا لا نعيد النظر في اتجاه التفاهم ما دمنا لم نتمكن من إلغاء المحكمة بقرار من الحكومة. ثم يأتي الإسقاط بمثابة إجابة عن الهمس بأننا لم نلغِ المحكمة إنما أسقطْنا «حكومة المحكمة» وتلك خطوة على الطريق يمكن اتباعها بخطوة أكثر أهمية من خلال الحكومة الجديدة التي نحن اخترنا رئيسها، أي نجيب ميقاتي، الذي لا بد سيأخذ في الاعتبار دوافع الاختيار والمطالب التي تبدأ من القمة نزولا، أي من تنفيذ ما لم تنفِّذه الحكومة الحريرية. وأما مطالب ما دون القمة نزولا فإنها سلاح المقاومة الذي لن يمس والمثالثة التي يرى صاحب القرار الشيعي في الزمن الحالي أنه لا بد من مباشرة الحديث رسميا فيها بأمل الأخذ بها على أساس أنها إذا كانت لن تحدث في ظل ورقة السلاح فإنها ربما لا تحدث بعد ذلك.

وهنا ربما يجترح أبو الابتكارات، الرئيس نبيه بري، فكرة أن تكون هنالك مقايضة السلاح بالمثالثة. وفي هذه المقايضة لا يعود هنالك مقاومة. وبالتالي لا يعود هنالك موجب للقلق.

هذا لجهة غرض «حزب الله» من اختيار ميقاتي وتزكية «حركة أمل» المعقود لواء الزعامة الأوحدية فيها للرئيس بري. أما غرض الجنرال عون فإنه بالالتفاف حول نجيب ميقاتي والحماسة الملحوظة لترشيحه، فعلى أساس أنه في ظل الحكومة الجديدة يمنح لنفسه شرعية للحملة الشخصية البالغة الضراوة على العهد الحريري ابنا بعد أب.

زيادة في محاولتنا الإجابة عن تساؤلات بعض إخواننا الخليجيين حول اللغز اللبناني العجيب وكيف أن رئيسا للحكومة تقف إلى جانبه الدول الكبرى والدول العربية الأساسية ذات الصلة الوثيقة بالدول الكبرى يتم إسقاطه بهذه السهولة؟ وكيف يمكن تشخيص التحالفات السياسية في لبنان التي هي جزء من اللغز؟ إننا زيادة في محاولتنا الإجابة نقول إن سعد الدين رفيق الحريري الذي قضى إقالة وليس استقالة طوعية بمقتضى ملعوب إنما استهجن فِعْل الذين استقالوه ربما لطيبة قلب هذا الرئيس، وربما لأنه ما زال في سنة أولى سياسة ورئاسة يقارع بمجموعة مستشارين سنة أولى مشورة، أقطابا خاضوا غمار اللعبة السياسية على مدى عقود فباتوا يمارسونها أحيانا كلاعبين وعند الاضطرار كمتلاعبين ومن دون أن يرفّ لهذا اللاعب جفن أو تحمّر وجنة ذلك المتلاعب. ففي النهاية لا فضيلة في نظرهم تتقدم على الفهلوة والحذاقة ونصْب المكامن، عِلْما بأن في قاموس السياسة ما هو أكثر نقاء من «الغاية تبرر الوسيلة» أي هنالك الاستدارة بنسبة 180 درجة.

ونخلص إلى بعض التشبيهات التي تعطي فكرة عن التحالفات السياسية في لبنان معتمدين في ذلك مقارنة التحالفات وما انتهت إليه حيث أسقِطَت الحكومة الحريرية مضرجة بخيبات الأمل والصدمات، بحالات الزواج.

وفي هذا الصدد نرى أن الذي جرى بين وليد جنبلاط وسعد الدين الحريري كان حالة خلْع و«مسيار» في الوقت نفسه من الجانب الجنبلاطي للطيف الحريري، وأن الذي جرى من جانب نجيب ميقاتي وشريكه محمد الصفدي مع سعد الدين الحريري كان بمثابة إنهاء للمساكنة. أما الذي هو قائم بين سعد الدين الحريري والطيف المسيحي الصامد إلى جانبه «سمير جعجع – أمين الجميل – آخرون) فإنه زواج كاثوليكي يقابله زواج المتعة الصامد إلى حين بين «حزب الله» والجنرال ميشال عون. والمتعة هنا بالنسبة إلى الحزب أن ذراعه المارونية كفيلة بتخفيف حدة الانطباع الذي يروِّج له الطيف الماروني الآخر وهو أن «حزب الله» هدفه وضْع اليد على لبنان وأنه قادر على ذلك بالشأن العسكري الذي يملكه إضافة إلى الشأن السياسي المستجد الذي جرَّبه بتنصيب من يراه مناسبا رئيسا لـ«سراي البيارتة»، التي هي حصة السنة في لبنان. أما المتعة بالنسبة إلى الجنرال عون فهي أن تكتمل الحلقات المتبقية من السيناريو في حال ثبات الحلقة الأولى المتمثلة بإسقاط سعد الدين الحريري لترئيس نجيب ميقاتي، فتجرى انتخابات نيابية قبل انتهاء ولاية البرلمان الحالي وتأتي نتائجها، ما دامت الحكومة ميقاتية، بالأكثرية التي في استطاعتها، وضِمْن متفرعات السيناريو إياه، اختصار ولاية الرئيس الحالي ميشال سليمان وانتخاب الجنرال عون رئيسا للجمهورية. وهذا مبتغاه أصلا من التحالف مع الحزب الذي هو أيضا ليس غائب النظرة عن ذلك. وإذا كان ذلك لن يحصل فإن زواج المتعة توأم الزواج العرفي ينتهي وينفرط عقْد شهود هذا الزواج توائم «شهود الزور».

..وعساني ولعلني أيها الأصدقاء الخليجيين الحائرين في تفسير اللغز اللبناني والتحالفات الغريبة المثيرة المريبة شأنها شأن التدخلات، أوضحت بما يفي بالإجابة غير العسيرة على الاستيعاب.