الضوء في ظلام يناير 2011

TT

ما بال الزمان بات يضن علينا بأيام طيبة، ومنذ الليلة الأولى لمطلع العام الجديد كانت الدماء والأشلاء تنتشر في شارع يقع بين مجسد وكنيسة في مدينة الإسكندرية، معلنا انفجار فتنة طائفية لعن الله من أيقظها، ولكنها باتت صاحية على كل الأحوال بضجيج واسع حول علاقات المسلمين بالمسيحيين، والحقوق الدينية، والقانون الموحد لدور العبادة، وكما يحدث في كل الفتن فإن التاريخ يصبح حاضرا ولاسعا مستعيدا ما جرى منذ الفتنة الأولى. ولم يمض على الزلزال الأول أيام حتى جاء في التاسع من الشهر استفتاء السودان لكي يعلن ما كان معلوما من زمن أن دولة عربية باتت دولتين، ومع انفصال الجنوب ظهرت الذنوب والمعاصي إلى غير حد حتى ولو كان أصحابها قد توضأوا وبسملوا وحوقلوا وحلفوا بأغلظ الأيمان أن ما جرى كان مؤامرة عالمية.

ومع الرابع عشر من يناير جاء زلزال آخر من تونس هذه المرة، كانت مشاهده تتجمع في الأفق على مدى شهر سابق، حتى جرى ما جرى وبات معلوما، وراحت دولة عربية تلعق جراحها، لا تعرف شيئا عن نظام جديد، ولا تعرف ماذا تفعل بنظام قديم.

كانت تلك أحداث كبرى، ولكن البناء المتصدع للأمة كان قد جرى منذ وقت طويل، وكانت مظاهرة قد باتت عنيفة ودامية للغاية بما جرى في العراق وفلسطين ولبنان واليمن حيث جلست دول على حافة الحرب الأهلية مرة، ومواجهة الغزو الأجنبي تارة أخرى، وبشكل ما بدا أن ما لم يصبه مس من الشيطان يعيش مرحلة انتظار طال أو قصر سوف يأتي بعدها زمن يضن بالسعادة والاطمئنان.

وجاء الدور على مصر. في يوم الخامس والعشرين من الشهر، وهو يوم في العادة للفخر بصمود رجال الشرطة بالإسماعيلية أمام قوات الاحتلال الإنجليزي، والترحم على أرواح الشهداء ولكن الشباب الذي لم يعرف ما حدث في هذا التاريخ، ولم يفهم لماذا كان هذا اليوم إجازة رسمية قرر أن يكون يوما للتغيير والثورة وإسقاط نظام الحكم أو أيا ما سمي ورفع من شعارات.

ما جرى بعد ذلك لم تشهد شاشات التلفزيون مثله، ولأول مرة كان خطاب الاتحاد للرئيس الأميركي باراك أوباما هو الخبر «الثاني» في الصحافة الأميركية والمطبوعة، أصبحت مصر - للأسف هذه المرة - مركز أبناء العالم حيث اختبر النظام والدولة والشعب كما لم يجر لهم اختبار من قبل.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تنقلب فيها الأحوال في مصر فقد انقلبت عندما جاءت الملكية، وانقلبت مرة أخرى عندما أتت الجمهورية، وفي الزمن الجمهوري جرت ثورة الشعب من أجل الحرب في 1968 و1972، ثم انفجرت مرة أخرى على خلفية البحث عن السلام في يناير - أيضا - عام 1977، وفي نوبة غضب لم تكن مفهومة جرى ما عرف بتمرد جنود الأمن المركزي في عام 1986، ومن بعده كانت الحركات الأصولية التي أنتجت فتنا طائفية، واغتيالا لرئيس، قد أثمرت حركات إرهابية ظهرت مرة في شكل موجة، ومرات في شكل عمليات إرهابية موجعة.

ولكن أمرا ثابتا ظل واقفا كالطود طوال هذه الأحداث وهو الدولة المصرية التي يصعب تعريفها، فهي ليست القوات المسلحة، وهي ليس نظام الحكم، وهي ليست رئيس الدولة واليا أو سلطانا أو ملكا أو رئيسا للجمهورية، وإنما هي حزمة كاملة من الروح والإرادة والمؤسسات والقدرة والهوية التي تجعل للمصريين إلى جانب عروبتهم وإسلامهم نغمة وإيقاعا وسمات تخصهم من دون العالم.

وبقدر ما شعر أهل المحروسة بذلك فخرا، كلما كان الخجل حاضرا لأنهم ساعة الأزمة لم يرتفعوا إلى مستوى اللحظة، ولا التوقعات التي كان يضعها بقية العرب على أكتافهم.

لقد مضى شهر يناير بأكمله، وفي الطريق إلى العمل صباح الاثنين - اليوم الأخير من الشهر - وجدت مشهدا افتقدته طوال الأيام السابقة حيث كانت الشوارع خالية مستعدة دوما لاستقبال المتظاهرين أو الجنود أو كلاهما معا، كان الزحام قاتلا كما هو معتاد، والصيحات والاستعجال الدائم، وببساطة كانت الحياة تتدفق إلى حيث تعيش وتمارس أدوارها كما لم يحدث من قبل.

ولا أدري شخصيا عما إذا كان ذلك يعلن نهاية الأزمة، ولكن ما أعرفه أنه كانت المرة الأولى التي لم أشك فيها من الزحام وفوضى القاهرة، ولا أقلقتني أكوام القمامة التي تراكمت أيام الفورة التي لم يكن هناك دليل واحد على أنها لا تزال باقية.

ولكن شيئا ما ظهر كضوء خافت في ليالي يناير الظلماء وهو أن أطرافا عديدة تعلمت دروسا لم يكن لها أن تتعلمها لولا الظلمة الحالكة التي حلت ساعة أزمة بدت في لحظات منها أنه ليس لها حل.

ولكن الضوء الأول جاء من السلطة السياسية التي عرفت مع شرعيتها أن الطريق الذي اختطته طوال الشهور الماضية كان مضرا، وظهر أن هناك حاجة لتغيير المسار.

وبقدر التصميم على أن تؤكد الدولة وجودها، والنظام استقراره، والشعب أمانة، فقد كان القرار هو أن كل ما نودي به من إصلاح دستوري وسياسي قد آن أوانه بعد أن بدا أنه لن يأتي أبدا. الثوار من ناحيتهم خاصة شباب الطبقة الوسطى التي قادت الفورة تعلموا أن الثورة من التعقيد بأكبر ما علمتهم إياه عيدانهم الغضة، ومن ثم كانت العودة إلى حماية الديار والوطن.

الساسة وحدهم - حتى كتابة هذا المقال - كانوا لا يزالون في أحلامهم التونسية، ولكن الأيام سوف تعلم أن السياسة في النهاية هي فن الممكن، وأن وزارات الإنقاذ والوحدة الوطنية والقومية التي يتم تكوينها على الأرصفة لا تعني شيئا دون تفاوض مع القلب الصلب للدولة الذي بات على استعداد لعمليات إصلاح واسعة.

القاعدة الإلهية هي أنه عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وما جرى للمحروسة كان ضربة هائلة على الرأس خيبت آمال كثيرة بقدر ما أيقظت آمالا واسعة. فلا يوجد ما هو خير أكثر من يقظة ستة وثمانون مليون نسمة يعيشون في وسط أمة باتوا إعلانا لحيويتها ووسطيتها.

وبالنسبة لمصر فإنه كان للأزمة فائدة إضافية فقد ظهر فيها من كانوا يحبون الثورة أكثر مما يحبون مصر والمصريين، كما ظهر من هم يحبون مصر والمصريين كما تحب لنفسها ولأهلها، وليس كما يراد لها أن تكون.

وفي مقدمة هؤلاء كانت المملكة العربية السعودية التي قدمت لمصر خلال الأزمة التأييد من دون شروط أو حدود بينما كان آخرون غارقـــــــــــــون في الشماتة، والتنطع الدولي، وفي أفضل الأحوال التمنيات الطيبة، ومن كاتب مصري يحب بلاده أقدم للمملكة شعبا وحكومة كل الشكر والتقدير والامتنان.