مصر.. كيف يكون المشهد التالي؟

TT

مع تسارع الأحداث في مصر، هناك من سار مع الموجة، وهناك من حاول أن يركب عليها، وأيضا هناك من حاول الوقوف في وجه المد الهائل. لذلك رأينا تجاذبا في مختلف الاتجاهات، وسمعنا مواقف سياسية مضطربة أحيانا، بينما الصورة من ميدان التحرير ظلت ثابتة لا تتغير.. شباب يرفع صوته ويقول كلمته، وشعب يتطلع إلى التغيير، والأنظار في كل مكان متسمرة على المشهد المصري.

غالبية العرب، لكن لا نقول كل العرب، تحب مصر وتتمنى لها الخير. فمصر تاريخ عريق، ودور يصعب إلغاؤه أو تهميشه، وتأثير لا يمكن التهوين منه. لذلك يتابع الناس ما يدور فيها بلهفة، وبقلق، وبأمل أن يتجاوز البلد محنته، وتتحقق للشعب تطلعاته وآماله في التغيير السلمي. لكننا مهما أحببنا مصر، فلن نستطيع أن نزايد على شعبها في حبه لبلده، واعتزازه بتاريخه، وتطلعاته وآماله لمستقبله. لهذا يجب أن ننصت جيدا لصوت الشارع المصري، ونعي معنى ما يدور. فالذين خرجوا في المظاهرات هم أبناء مصر لا أعداؤها، وهم من صلبها وليسوا وافدين أو مستوردين من الخارج. والتقليل من حجم مطالبهم، أو الحديث عنهم وكأنهم مخربون أو بلطجية، هو إساءة كبرى لهم ولتضحياتهم، ومصادرة لحقهم في أن تكون لهم الكلمة في كيف يحكمون، وماذا يريدون من حكومتهم. الخوف على مصر وأوضاعها مبرر بلا شك، لكن هذا لا يعني أن نصم آذاننا عن صوت الشعب المصري.

لقد مضت الأمور بعيدا، وردود الفعل المتأخرة من جانب النظام بدت قليلة المفعول، فالتغييرات التي تأتي بعد الانفجار تفقد كثيرا من مفعولها وأثرها وتبدو غير كافية للمحتجين، في حين أنها لو نفذت قبل الأحداث لكان مفعولها أقوى، وتأثيرها أوقع. لكن سقف المطالب ارتفع الآن ولم يعد الشعب المشارك في المظاهرات يرضى بأقل من تحقيق مطلبه في التغيير.

ما هو المخرج؟

ليس هناك حادب على مصر يريد لها أن تقع في قبضة الفراغ أو الفوضى أو أن تشهد انهيارا. وأبناء مصر الذين يتظاهرون الآن حريصون بلا شك على بلدهم، ويريدون مستقبلا أفضل، وحريات حقيقية ملموسة، وإصلاحات تحقق تطلعاتهم التي خرجوا وضحوا من أجلها. والتغيير المنشود يجب أن يكون حقيقيا وجادا وشاملا، وليس مؤقتا أو تكتيكيا أو مجتزأ، لأن هذا سيعني استمرار الاحتجاجات، وتجددها حتى لو توقفت، والمخاطرة باحتمال حدوث مواجهات واسعة ووقوع المزيد من القتلى والجرحى مما سيعقد الأوضاع والحلول، ويعرض أمن البلد والمنطقة للخطر.

لقد أعلن نائب الرئيس عمر سليمان عن الدعوة إلى حوار مع كل القوى السياسية، وهذه خطوة لابد منها لكي يتلمس الناس طريق الخروج من الأزمة، ويتفقوا على برنامج لتحقيق انتقال سلمي للسلطة، ويرتب لانتخابات جديدة تشارك فيها كل القوى السياسية ويقول فيها الشعب كلمته عبر صناديق الاقتراع بعد أن قالها في الشوارع والمظاهرات، على أن تحترم هذه الكلمة لا أن تصادر أو تزور مثلما حدث في الانتخابات الأخيرة التي كانت الشرارة التي أشعلت النار الكامنة تحت الرماد، وفجرت الاحتقان الشديد في الساحة المصرية الذي كان ماثلا أمام الأعين لكل من يريد أن يرى ويسمع. فمطالب التغيير، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة وتعديل الدستور وإلغاء حالة الطوارئ كانت تتردد منذ سنوات. وأزمات السكن والتموين، ومشاكل الغلاء والبطالة والعلاج والتعليم، وقضية الفساد المستشري، كانت كلها معروفة وماثلة أمام الأعين. لكن كان هناك من يرفض أن يرى الصورة على حقيقتها، وكانت هناك جوقة المطبلين الذين يخدرون الحكومات بأن كل شيء على ما يرام وأن الشعب في رضى ونعيم، وأن المعترضين هم قلة إما مأجورة أو موتورة، وأن تأجيل الحلول الجذرية سيجعل هذه المشاكل تتلاشى لأن الشعب صابر أو نائم، وأن فورة الشباب في الفضاء المعلوماتي هي ثورة في العالم الافتراضي لن تخرج منه، وزوبعة في فنجان سرعان ما تتلاشى، وأنه يجب عدم القلق، وعدم القيام بأي خطوات تلبي مطالب هؤلاء حتى لا يفهم الأمر وكأنه تنازلات تشجع المحتجين أو المتربصين. هذا هو منطق البعض الذي ورط النظام، وربما يفسر العنف الذي ردت به قوات الأمن على المتظاهرين في البداية، وصمت الحكومة لثلاثة أيام متواصلة، ثم الانسحاب الغامض لقوات الأمن وأعمال العنف والحرق والترويع التي تلت ذلك. كان يمكن للأمور أن تنزلق أكثر نحو العنف والمواجهات لولا أن الجيش المصري قدم صورة رائعة في الانضباط والالتزام، وحفظ تاريخه أمام شعبه الذي لم يصدق أبدا أن جيشه يمكن أن يصوب سلاحه نحوه. بل إن الجيش ذهب خطوة أبعد عندما قال إنه يدرك مشروعية مطالب الشعب وحقه في التعبير السلمي عن هذه المطالب.

الأيام المقبلة حرجة ومهمة لأن مغادرة الرئيس ليست هي نهاية الطريق، فالمهم الآن هو الحوار الموسع ووضع الترتيبات التي ستحدد كيفية إحداث التغييرات التي تحقق تطلعات الناس وتضع مصر على سكة التداول السلمي للسلطة، وتهيئ لها أن تكون أكثر عافية واستقرارا.