لا هي انتقالة أوروبية ولا حتى ثورة إيرانية!

TT

شطح الخيال بالكثيرين بعيدا وذلك إلى حدّ اعتبار أن هذا التململ الذي تعيشه هذه المنطقة، كردات اهتزازية لزلزال تونس أولا ثم لزلزال مصر الذي لم يستقر بعد، هو مقدمة لتحولات هائلة على غرار تلك التي عاشتها أوروبا عشية الثورة الصناعية الكبرى التي قلبت الأوضاع هناك رأسا على عقب وأنتجت هذه العلمانية – المادية المتجذرة وهذه الديمقراطية الراسخة العريقة وهذه الواقعية التي أنهت حسابات الخيال والأساطير وكل المعتقدات القديمة الموروثة.

لكن الأكثر موضوعية رأوا أن هذا الذي جرى في تونس والذي يجرى في مصر والذي قد ينتقل إلى أي دولة أو دول عربية أخرى ربما هو الاستجابة، التي تأخرت ثلاثين عاما، للثورة الإيرانية والدليل هو أن «انتفاضة» تونس التي انتهت لمصلحة أحد طرفي معادلة صراع نظام زين العابدين بن علي و«انتفاضة» مصر التي تحولت بسرعة إلى انتفاضة حرامية على غرار ما جرى في عهد الرئيس محمد أنور السادات في عام 1977 والتي أهم إنجاز حققته أنها قبرت وإلى الأبد فكرة أن يرث جمال مبارك والده، لها بعض ملامح الثورة الخمينية التي كانت قدمت يدها لتقطف ثمرة نظام الشاه محمد رضا بهلوي في اللحظة التاريخية المناسبة لكن المؤكد أن هذه الملامح تقتصر على القشرة دون أن تصل إلى الجوهر.

لسنا في هذه المنطقة في انتظار ثورة صناعية ولسنا دولا تقتتل على الأسواق العالمية وتنخرط في ما بينها في حروب من أجل استعمار ما سمي العالم الثالث الذي كان، وبعضه لا يزال، يئن تحت سياط استبداد آسيوي بغيض حتى توصف هذه الاهتزازات التي نعيشها بأنها تشبه ما كانت عاشته أوروبا في لحظة تاريخية تبعتها الحركة الاستعمارية التي امتدت من آخر نقطة في الولايات المتحدة وكندا في الغرب حتى آخر نقطة في اليابان في الشرق.

ولهذا فإن أدقّ ما يمكن أن يقال عن هذه الاهتزازات، التي بدأت بتونس ومصر «ودغدغت» الجزائر ودولا عربية أخرى، أنها بالتأكيد ليست هزات ارتدادية جاءت متأخرة لنحو ثلاثين عاما للثورة الإيرانية التي بقدر ما أفرحت أهل هذه المنطقة بقدر ما خيبت آمالهم عندما كشفت عن حقيقة أنها حركة غير تنويرية ولا ديمقراطية ولا علمانية ولا واقعية والتي تحولت إلى حالة أنتجت هذا النظام القمعي الاستبدادي الذي عنوانه «الولي الفقيه».

لقد بدأت انتفاضة تونس بتلك الحادثة المأساوية، التي هي ابنة لحظتها، وهكذا فقد جاءت كل التحركات اللاحقة عفوية وبدون أي برنامج واضح وبدون أن يكون هناك تصور مسبق لنظام الحكم البديل، بل بدون الاتفاق على قيادة ميدانية تقود الشارع الذي كان بقي يعيش حالة من الحيرة والضياع إلى أن برز الجيش فجأة في إطار الصورة العامة ففرض نفسه ووجهة نظره على الحالة الجديدة.

لا حزب «النهضة» بزعامة راشد الغنوشي كان ينتظر أن يحرق شاب من بلدة بني زيد نفسه ولا كل التنظيمات الهامشية الأخرى كانت تخطط لانتفاضة وتتوقع ثورة في الوقت القريب وأيضا فحتى اتحاد الشغل الذي تحول إلى رقم رئيسي في واجهة المعادلة السياسية الجديدة فقد كان مثله مثل غيره لم يكن يتوقع ما جرى ولم يكن مستعدا له ولكنه يختلف عن الآخرين في أنه سارع معتمدا على إرثه النضالي وتواجده الفعلي والفاعل في الحياة السياسية التونسية على ركوب الموجة واستغلال الظروف جيدا ففرض مكانة لنفسه مميزة اتضحت تماما في عملية تشكيل الحكومة الجديدة وكل هذا بسبب صلات لم تنقطع مع عهد «المجاهد الأكبر» وأيضا مع عهد زين العابدين بن علي.

في مصر كان الإخوان المسلمون قد رفعوا في وقت مبكر شعار «الإسلام هو الحل»، الذي كان ابتكره مؤسسهم الأول الشيخ حسن البنا، لكنهم لم يقولوا ولم يوضحوا كيف بالإمكان تطبيق هذا الشعار ولم يطرحوا أي برنامج عملي قابل للتطبيق كبرنامج للنظام البديل الذي تأخروا في المناداة به والذي كانت قد سبقتهم إليه قوى لا وجود فعليا لها ويسود اعتقادٌ بأنها هي التي شكلت «طوابير» السلب والنهب و«البلطجة» عندما اهتز الاستقرار واختل الأمن وسيطرت الفوضى على البلاد قبل أن يتدخل الجيش بثقله الفعلي والمعنوي ويفرض النظام بعد فلتان استمرّ زهاء يومين.

لقد تجرأ الإخوان المسلمون وإن في وقت متأخر على نظام الرئيس مبارك وأصبحوا يطالبون بإسقاطه لكنهم لم يكونوا قد أعدوا العدة للحظة التي يقولون أنهم كانوا ينتظرونها ولهذا فإنهم تركوا أعضاءهم يتراكضون في الشوارع وراء الدهماء في ظل غياب قياداتهم العليا عن الصورة تماما وأنهم لم يجدوا بدا من أن يتلطوا في ساحة التحرير في القاهرة وراء الدكتور محمد البرادعي الذي أمضى نحو نصف عمره بعيدا عن مصر والذي يجهل مستجدات الواقع المصري والذي بدت صورته في أول إطلالة له بعد «الانتفاضة» باهتة ومهزوزة وبدا هو عندما كان يخاطب الجماهير «الثائرة» غير واثق من نفسه ولا يعرف أكثر من المطالبة بالاستمرار بالتظاهر حتى سقوط مبارك وذلك دون أن ينبس ولو بكلمة واحدة حول البرنامج البديل وحول من هي القيادة المفترضة الجديدة.

لقد تم الإعلان عن قيادة من عشرة أشخاص وتم إعلان أسماء هؤلاء الأشخاص لكن ثبت أن تلك المسألة كانت آنية ومرتجلة وثبت أن الدكتور البرادعي لم يكن مكلفا من قبل أي كان عندما عاد من فيينا في النمسا بسرعة وتوجه إلى ساحة «التحرير» ليلقي كلمة غير مطولة وغير واضحة المعالم وبنبرة خجولة، خاطب فيها آلاف الشبان الذين كانوا يحتشدون عشوائيا ويفتقرون إلى القيادة والتوجيه.

ولهذا، وهذه حقيقة، فإنه لو لم يسارع الجيش المصري بكل تاريخه البطولي وبكل ثقله الفعلي والمعنوي ومكانته المقدَّرة عند معظم المصريين، إن ليس كلهم، فإن القاهرة بل كل مصر ستنتهي إلى ما يشبه نهاية روما عندما حرقها نيرون وستكون النتيجة كارثة ستمتد آثارها لعشرات السنين.

الثورة الإيرانية منذ أن بدأت بمظاهرات الطلبة وصغار معممي حوزة «قم» وإلى أن انتهت بثورة «البازار» والتحاق فنيي سلاح الجو بها وانتصارها في فبراير (شباط) عام 1979 كانت تتنقل في كل هذه المحطات وفق خطة كان قد أعدها الإمام الخميني خلال إقامته في النجف، التي امتدت زهاء ثلاثة عشر عاما، وهنا فإن ما لا يعرفه كثيرون هو أن هذه الثورة قد اعتمدت، حتى وصلت إلى لحظة الانتصار، على جيش متفرغ من المعممين قوامه أكثر من سبعين ألفا من «الكوادر» المدربة التي سارعت إلى السيطرة على الشارع بمجرد فرار الشاه محمد رضا بهلوي إلى خارج البلاد.

كان الخميني، بعد ترتيب أوضاع تنظيمه الخاص وبعد تحديد صورة النظام البديل وبعد أن وضع تصوراته في إطار خطة لم تغفل أي شيء على الإطلاق، قد لجأ إلى نسج عرى تحالف سياسي ضم حتى الحزب الشيوعي «توده» وحتى اتجاه بختيار ورموز «البازار» كلهم وبالطبع مجاهدي وفدائيي خلق لكنه بعد أن تمكن ورسخ أقدامه وأقدام ثورته بادر وللأسف إلى تصفية هذا التحالف وأيضا تصفية كل من خالفه الرأي إلى أن وصل سيف التصفيات إلى الرجل الذي كان القائد الميداني لهذه الثورة والمقصود هنا هو آية الله العظمى أحمد حسين منتظري الذي انتهى منفيا إلى «قم» حيث فرضت عليه الإقامة الإجبارية إلى أن انتقل إلى جوار ربه.. وهذا كله يختلف من حيث الجوهر عما جرى في تونس وعما جرى في مصر وعما قد يجري في أي دولة عربية تفتقر إلى المعارضة البرامجية والخطط البديلة الجادة.