عرب «الفيسبوك»

TT

نحن على مفصل تاريخي. للمرة الأولى يغضب العرب ويثورون من أجل «الديمقراطية» و«العدالة الاجتماعية». لم يحرق المتظاهرون، في تونس والقاهرة علم إسرائيل لم ينادوا بـ«عروبة» فجة وفضفاضة. رفضوا أن يقال بأن ثورتهم هي ضد الفقر ومن أجل الخبز ويصرون على أنها صرخة في سبيل: «الحرية» و«الكرامة». لغة طازجة، طالعة من القلب، جعلت أشد ديناصورات المعارضة عتوا يشعرون بالخجل من شعاراتهم التي بدت مستهلكة ومتداعية. «يبدو أننا آتون من عصر آخر» يقول أحد اليساريين القدامى «علينا أن نتجدد لنلحق بالشباب».

لكن الأمر ليس بهذه السهولة. رغم أن «ثوار الفيسبوك» هم الذين أطلقوا شرارة الغضب وقادوا الاحتجاجات، إلا أن محاولة الالتفاف عليهم بدأت من أصحاب اللغة الخشبية، والبيانات العصية. ثمة نوعان من المحتجين الوازنين في شوارع مصر. فئة الشباب الآتي من فضاء مفتوح وعفوي، يتمتع بذكاء صاف، وفئة أخرى من المؤدلجين والمؤطرين الذين أدمنوا الحسابات السياسية. قد ينجح بعض الديناصورات في خطف القرار. لعلهم هم اليوم الذين يقودون النقاشات بشكل أساسي لإيجاد بدائل ما بعد مبارك. يبدو أن اللعبة ستقودها المعارضة التقليدية مع الجيش في المرحلة الأولى، للوصول إلى برّ آمن. لكن ما كان للشباب أن يخفت صوته، ولو مرحليا، لولا حرمانه من الانترنت وهواتفه الجوالة. 23 مليون مصري يدخلون على الشبكة الإلكترونية، أي ربع الشعب، ما يفوق أضعافا مضاعفة أولئك الذي نزلوا إلى الساحات. قطع وسائل الاتصال لأول مرة في تاريخ الإنترنت على هذا النحو الشامل، لم يلغ الثورة، لكنه، على الأرجح، حرف مسارها وأطال عمر النظام بضع ساعات إضافية.

المدونات وصفحات الفيسبوك شاهدة على أن الثورة المصرية كانت تتحضر افتراضيا منذ مدة طويلة، قبل أن تنتقل إلى الواقع. ثمة على المدونات خطط لترشيد استخدام المياه، وحملة «يا قمحنا ارجع لنا» لإعادة استنبات السنابل والاكتفاء الذاتي، وأخرى لتقوية اللحمة بين المسلمين والمسيحيين، وغيرها لتغذية روح المواطنة، هذا عدا «سكوت حنصوت» التي تعد الشباب بالديمقراطية. عالم آخر مواز لذاك الذي كان يظن النظام انه يمسك بتلابيبه نما في الفضاء الإلكتروني. ولم تأت خطط التظاهر والاحتجاج في الشوارع إلا تتويجا لحملات شبابية طويلة ونقاشات طالت كل معضلة، حتى بدا أن مصر جديدة تولد، في السنوات الأخيرة، من مخلية هؤلاء.

الشباب كانوا قد رسموا كل شيء قبل بدء انطلاق الاحتجاجات، حضّروا الخرائط، نشروا التعليمات، تبادلوا التصورات، وعرفوا ما الذي يريدونه تماما. وفي اليوم الثاني للتظاهرات، وبينما كان النقاش بين السياسيين والمحللين دائرا حول الإصلاحات التي يطالب بها المحتجون، خرجت المدونة الشهيرة نوارة نجم لتقول بشكل قاطع: «واضح أن إحنا مفهومين غلط، إحنا مش هدفنا أن نزعج النظام ولا أي حاجة، إمبارح الناس دي كانت جادة، نحن فاض بنا الكيل وسنستمر حتى نسمع كلمة: أنا فهمتكم. هذا هو مطلبنا النهائي ومش حنوطي السقف عن كده». في إحالة من إحدى قادة ثوار الفيسبوك إلى الخطاب الأخير للرئيس التونسي المخلوع قبل أسابيع زين الدين بن علي.

بدأ كلام نوارة، منذ أيام فقط، سورياليا وخارجا عن السياق، ولكن ها نحن نرى أن الخطة الإنترنتية، تجاوزت حتى مخيلة مبتكر الفيسبوك نفسه مارك زوكربيرج، الذي كانت غاية مبتغاه أن يجعل من موقعه عالما افتراضيا يشبه الواقع حتى يصبح مرآة له. لكن زوكربيرج في جنته الأميركية لم يكن ليتصور بالتأكيد، تأثير موقعه هذا في مجتمعات تغيب عنها الحريات وتزور الأصوات في صناديق الاقتراع.

بصرف النظر، عما ستؤول إليه حال الاحتجاجات الحالية، ومن الذي سيقطف الثمر وكيف؟ فإن قواعد اللعبة السياسية في العالم العربي قد تغيرت، بعد أن خرج المارد من قمقم الأجهزة الإلكترونية. وهو مارد مسالم، لطيف، لا يستخدم عضلاته المفتولة إلا للضغط على الأزرار، وإطلاق الصيحات من الحناجر بإصرار. انه مارد عنيد، ويذهب نحو هدفه كالسهم.

للتذكير فقط فإن «ثورة الأرز» اللبنانية التي انطلقت عام 2005 لم تكن في روحها الشبابية، ولغتها الشهية ومطالبتها بالحرية والديمقراطية، بعيدة عما شهدناه في تونس ومصر. فقد افترش الشباب الأرض واعتصموا في الليل والنهار، وحملوا المصحف والصليب، ونادوا بحقهم في العيش الكريم والانتخاب والكرامة. وهرب الطلاب من صفوفهم الجامعية ليلتحقوا بساحة الحرية، لكن «ثورة الأرز» خطفت من الشباب لأنهم فقدوا بوصلتهم حين عادوا والتفوا على الزعيم بدل المبدأ، وآثروا الطائفة على الوطن.

لذلك يحق لنا أن نقول بأن لبنان يخرج من التاريخ لحظة قرر العرب الآخرون دخوله، على أمل أن تكون رؤى شباب مصر وتونس أنضج من وعي أبناء «ثورة الأرز» التي أجهضت في المهد، وكان بمقدورها أن تكون خلاصا.

لكن ربما في خضم المخاض الشبابي العربي الجديد، يتمكن اللبنانيون في غضون سنوات مقبلة أن يصيغوا «ثورة أرز» جديدة خالية من القطران الطائفي ونيكوتين الأحقاد البينية.