ما بعد الزلازل: أجندة مفصلة لـ«الإنقاذ الوطني»

TT

أي إنقاذ وطني؟.. المقصود - بالضبط - بهذا التعبير هو إنقاذ الأوطان العربية من الانتفاضات والثورات الشعبية التي عصفت بأنظمة حكم في غير بلد عربي.. ولسنا مع الذين يقولون - في تعميم خاطئ وحكم جاهز شامل -: إن وقت الإنقاذ قد فات، وليس أمام الناس إلا انتظار مثل هذه الانتفاضات: غدا أو بعد غد. ذلك أننا نرى أن فرص الإصلاح والتجديد والتعافي لا تزال مفتوحة تهتف بمن يريدها: أن هلم إلينا، وإنك سترى ما تقر به عينك حين تحسن استثمارنا قبل أن نغادر الزمان والمكان.. وهذه «الرؤية» ليست مطلقات عامة، ولا خيارات مقطوعة الصلة بعناصر الفعل الأساسية: «الإمكان» و«الواقعية» و«المباشرة». بل هي رؤية أمكن تفصيلها في الأجندة التالية:

1) تصعيد الوعي – إلى أعلى مناسيبه – بـ«منافع الإحساس بالخطر». فالمسيرة البشرية تقدمت بحوافز شتى، من أبرزها: الإحساس القوي بالمخاطر، والتصميم على دفعها، فدفعت مخاطر الأمراض والأوبئة بالإبداعات المتتالية في مجال الطب والصحة.. ودفعت مخاطر الغزو والاجتياح بتدابير الدفاع الصلب عن الأوطان ومن فيها وما فيها.. وهكذا.. ولقد دلفت منطقتنا هذه إلى حقبة ربما ليس بها عهد من قبل. وبغض النظر عن تقويم هذه المرحلة، والموازنة بين إيجابياتها وسلبياتها، فإن الشيء المؤكد هو أن المنطقة تشهد تحولا سياسيا واستراتيجيا: ليس مبصرا من لا يشاهده.. ويستدعي هذا التحول تغييرا أو تجديدا في التفكير الاجتماعي والسياسي والاستراتيجي يناسب الحقبة: لا تناسب السيحان والذوبان والهلع المميت، وإنما تناسب الفهم الموضوعي «المجرد من القصور والخداع» الذي ينبني عليه عمل يستهدف «حفظ الذات» وتجديدها بالنزوع إلى المبادأة والمبادرة.. فليس يغيب عن عقل مستنير – وعملي - أن «الجمود» – مع وجود دواعي التجديد – يفوت المصالح، ويشل التفكير عما يجب التفكير فيه، ويبطل مضامين ومنافع الإحساس بالخطر.

2) الخروج العاجل من حالة «الاسترخاء». فتاريخ الحضارات والدول يؤكد – وبين يديه مئات البراهين - أنه ما حصل التدهور والأفول لحضارة أو دولة ما إلا وهي في «حالة استرخاء».

3) الإفاقة الناجزة من «منوم الاستثناء»: لن يحصل لهذا البلد أو ذاك ما حصل لغيره – في هذه الصورة أو تلك -. فقد جزم مسؤول كبير في بلد عربي كبير بأن دعوى انتقال ما جرى في تونس إلى دول عربية أخرى إنما هي مجرد دعوى أو «كلام فارغ».. وقبل أن يجف لسانه من هذه العبارة: وقع في بلده: ما وقع في تونس، وبصورة أشد وأحد.

4) التبني العملي لمفهوم أو فلسفة: أن الإصلاح والتجديد إنما هو لـ«صالح النظام السياسي نفسه»، قبل أي شيء آخر، وهو مفهوم يصب في الإرادة الوطنية عزما هائلا وتصميما لا حدود له على مباشرة الإصلاح والتجديد بحسبانهما مطلبا من صميم الأمن الوطني – بمعناه الوجودي الشامل -، لا بحسبانهما استجابة لضغوط داخلية أو خارجية.

5) الإصغاء الذكي الحكيم للشورى والنصح. فأعظم الحكام عقلا، وأبعدهم نظرا، وأوفاهم ذكاء ورشدا وحصافة هو من يجيد الإصغاء – بحرص وتواضع وتشجيع – إلى المشورة والنصح. فالأمم إنما تتقدم – في حقيقة الأمر – بالآراء السديدة، والمشورات المبدعة المفيدة التي تعين القيادات السياسية على مزيد من التبصر الموضوعي في الأحداث والأمور والوقائع، وتعينهم – من ثم – على اتخاذ القرارات التي تزيد الدولة قوة وفتوة وعمرا وعنفوانا في المجالات كافة.. والحرص على الشورى على هذا النحو يشبه حرص الحريص على عافيته الذي يتحرى اقتناص ما يزيدها نضارة وبهاء: من الأغذية الملائمة، والمناخات المناسبة وسائر مقومات العافية المتجددة.

6) الحذر الشديد والدائم من نوعين هدامين من «المستشارين».. النوع الأول هو المخلص الغبي الذي يقدم الشورى بإخلاص، ولكنه إخلاص محروم من الذكاء والعبقرية ورجحان العقل.. ومثل هذا النوع من المستشارين كمثل الذين يعبدون الله بإخلاص، ولكن بغير المنهج الذي شرعه الله لعبادته، فهم في هذه الحالة لا يزدادون من الله إلا بعدا، وإن ظنوا أنهم يعبدون الله بإخلاص.. النوع الثاني من المستشارين الهدامين هو «المستشار الخائن».. وهذا النوع لا ينقصه الذكاء، وإنما آفته أنه غير مخلص، وأن عدم إخلاصه مسبب بتقديم أهوائه ومصالحه الشخصية على مصلحة الوطن.. وبمقتضى هذه الأهواء والمصالح يخفي المعلومة التي يتصور أنها تضر بمصلحته، ويقدم الرأي الملتاث باستدامة مصالحه.

ومن يدقق في قراءة التاريخ السياسي للعرب والمسلمين – وربما في تاريخ أمم أخرى – يلتقي بظاهرة مرعبة في هذا الشأن: ظاهرة: أن المصائب على الأمم والدول جرها عليها – في الغالب - مستشار مخلص، ولكنه غبي.. أو مستشار ذكي، ولكنه خبيث.

7) أن تعكف الأنظمة السياسية على كل ما في النقد من مضامين إيجابية، وأن تتبنى هذه المضامين، وكأنها نوع من الشورى.. نعم، أي تتبناها بأفضل وأجدى وأصدق مما ترفعه المعارضات من شعارات.. وإنه لعجب.. وأي عجب!!.. لماذا تترك الأنظمة السياسية الساحة للمعارضات كي تطالب بكذا وكذا؟ لماذا لا تكون الأنظمة نفسها أسبق وأصدق من المعارضات في تبني ما هو حق ومعقول من المطالب؟.. لماذا لا تفعل ذلك وهي الأقدر على فعله؟.. وإذا مارست ما هو معقول وحق ومستطاع من المطالب، فإنها تكون قد كسبت الجماهير من جهة، وجردت المعارضات من أقوى أسلحتها من جهة أخرى.

8) التحرر من «الاعتماد على الخارج».. ونسارع إلى دفع وهم – ها هنا – قبل أن يبزغ؛ وهم أننا لا ندعو إلى الانقطاع عن الخارج أو الاستهانة بما فيه من مصالح وعلاقات وعوامل قوة.. فمن أقوى عناصر السياسة الخارجية: إقامة روابط متينة ومجدية مع دول العالم. وإنما نقصد بـ«التحرر» الاعتماد الوهمي على الخارج. أولا: لأن السند الحقيقي لأي نظام سياسي هو «الجبهة الداخلية» المتناغمة – بعمق – مع قيادتها ونظامها.. ثانيا لأن الإفراط في الاعتماد على «العكاكيز الخارجية» جر على أصحابه الخيبة والدبور.. ومن أبرز الأمثلة على ذلك: شاه إيران. فقد أعاده الأميركيون إلى العرش بعد أن أرغم على تركه.. ثم اعتمده الأميركيون «وكيلا إقليميا» لهم لعقود عديدة.. ثم بغتة تخلوا عنه وخانوه كما حكى ذلك على لسان آخر سفير أميركي في إيران في عهد الشاه: وليم ساليفان في كتابه «أميركا وإيران». فقد تعجب الشاه قائلا: أنا لم أفعل شيئا ضد الأمن القومي الأميركي ولا أدري لماذا تآمرت علي المخابرات المركزية الأميركية؟.. ثالثا: إن الإصلاح الحقيقي زائد جبهة داخلية متماسكة متناغمة مع القيادة والنظام يغني – بيقين – عن الاعتماد الوهمي على العكاكيز الخارجية.

9) البند التاسع في أجندة الإنقاذ الوطني هو «الاستبشار المسؤول»، أي الاستبشار بأن بنود الأجندة كافة يمكن تحقيقها في ظل النظام السياسي القائم، بيد أن الاستبشار ينبغي أن يقترن بتحمل مسؤولية تبني الأجندة بصدق وحزم وسرعة معقولة.