حماية ثورة اللوتس من الاتحاد الاشتراكي

TT

الإسكندرية 1952 والمملكة المصرية تفصل دستوريا بين الدولة، وعلى رأسها الملك رمز الاستقرار؛ الحكومة التي يعينها الناخب في صناديق الاقتراع (منذ انتخابات 1922 حتى آخر انتخابات حرة عام 1951)، ويفصلها من عملها أو يجدد العقد بالطريقة نفسها وفق دستور 1923.

كانت الحياة النيابية الديمقراطية (حتى أجهضها العسكر عام 1952) ثمرة ثورة 1919 التي استمرت ثلاث سنوات، واشترك فيها مصريون من جميع الأديان (آلاف اليهود من الاتحادات العمالية)، ومن المهاجرين من كل بلاد الدنيا اعتبروها ثورتهم، بتفويض سعد باشا زعيما للأمة (بأكثر من مليون توقيع، من بينها آلاف الأسماء غير المصرية، من جميع الأديان في الوثيقة المحفوظة في مكتبة المتحف البريطاني) كي يفاوض الإنجليز باسم مصر.

مسيرة المليون مصري الثلاثاء في أوج ثورة اللوتس (زهرة اللوتس وموطنها النيل، تحملها إيزيس في أقدم أيقونات مصر، وأعمدة المعابد بشكلها اللوتس) ذكرتني في سلميتها بثورة 1919، لم يرق فيها مصري دم مصري آخر.

حمل رئيس الحرس الملكي تقرير مخابراته بتوجه نفر من ضباط انقلاب 1952، ثلاثة أيام بعد اغتصاب السلطة الشرعية إلى قصر رأس التين في الإسكندرية في 26 يوليو (تموز) 1952، إلى الملك فاروق، مؤكدا ليس فقط ولاء ألوية الحرس والبحرية المصرية للملك، بل تفوق وحداثة أسلحتها عن أسلحة ألوية الانقلاب (المدرعات والفرسان).

فرفض الملك قائلا إن نقطة دم مصرية أثمن عنده من كل عروش الدنيا والرحيل فورا أهون على قلبه من سفك دماء مصرية حفاظا على منصبه.

القاهرة 2011؛ ملايين يحملون اللافتات التي تعبر عن روح مصر (أطرفها حملها شاب «ارحل بقى... إيدي وجعتني» معبرا عن رغبة الملايين).

بعد أقل من 12 ساعة من خطابه الذي ذكرهم فيه بتاريخه العسكري من أجل مصر (وتعاطف كثيرون معه) نزل بلطجية الاتحاد الاشتراكي، حاملين الهراوات والسكاكين، ليسيل الدم المصري بيد مصريين، ويقتل (حتى ساعة كتابة السطور) 14 مصريا بيد مصريين.

كيف؟ ومتى حدث التحول؟

الانحدار، في ضمير الأمة، من منزلة «حورس» الصقر حامي سماء مصر إلى حضيض تقليد بلطجية حزب البعث الصدامي، بضرب المصريين وإسالة دمائهم، تطويرا لتمثيلية التنحي الشهيرة عقب هزيمة 1967، لتبين كاميرات التلفزيون الرسمي عديم المصداقية «مظاهرات تأييد».

عام 1967 ضحك الاتحاد الاشتراكي على الناس وربط في الأذهان رفض التنحي، برفض الهزيمة (وهي أصلا مسؤولية أبو التنحي نفسه، بجر البلاد إلى الحرب بانتهاك بنود هدنة 1956 بإغلاق مضيق العقبة وتحويل نصف الجيش للاستعراضات وكومبارس أغاني «حليم» إرضاء لـ«إيغو» الزعامة، وإرهاق النصف الآخر بحروب الأطماع الآيديولوجية).

قبل عصر الإنترنت وثورة المعلومات اشترى الناس تروماي الاتحاد الاشتراكي واستقلوها من محطة «لا تتنحى» نحو محطات الديكتاتورية والدولة البوليسية، ونشلت في الترام حرياتهم، وأهمها التعبير، فزمارة الكمسري تنفخ «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».

صبيحة خطاب «ماتمرش فيكم» عجز مديرو البروباغندا عن الربط بين رفض مطلب «التنحي» وبين هدف وطني حتى ولو «فيرتيوال». فأجهزة البروباغندا أكدت في كل مناسبة أن «كل شيء تمام بفضل قيادتكم المباركة».

وعجزت مظاهرة «لا تتنحى» موديل 2011، أن تجد هتافا يقنع ولو عقل ذبابة. فتعطلت لغة الكلام في مظاهرة التأييد وخاطبت لغة الهراوات والسكاكين وكرابيج الهجانة من فوق الجمال والقنابل الحارقة عيون الناظرين. الوجوه نفسها المتهمة في الماضي بضرب مؤيدي منافسي «الوطني» عند مراكز الاقتراع!

مصادفة؟

ناشدنا الرئيس المصري، لسنوات، فك الارتباط بين مؤسسة الرئاسة وبين الحزب الوطني الديمقراطي الذي اشتم منه الدكتور مأمون فندي «رائحة الاتحاد الاشتراكي»، ولكني «إشفاقا على الشاب فندي» لم أخبره أن الحزب هو بعينه الاتحاد الاشتراكي، ولكن الترزي كان ضعيف النظر، ففصل البذلة موضة الوطني من قماش ثياب الإمبراطور.

وهذا الارتباط دفع بدخان حريق مقر الوطني / الاشتراكي باتجاه مؤسسة الرئاسة.

أجلت الكتابة لما بعد المقابلة التلفزيونية المسجلة مع نائب الرئيس عمر سليمان. عرض الحوار مع التيارات المختلفة، وقال: قبل الانتخابات لازم تغيير دستور فصل على مقاس محدد، (التوريث عند البعض) ولا أدري لماذا لم يسأله المذيع: «وما هو عيب دستور 1923 تعدل فيه مادة واحدة فقط، لانتخاب رأس الدولة؟» وتنظيم انتخابات في 200 يوم «لماذا 200 يوم؟» ربما ينسى الشعب و«يصهين» (أي يتجاهل)؟ لن يرشح فيها ابن الرئيس نفسه.

وتفاءلت.

فجأة سمعت صوتا من الاتحاد الاشتراكي. نائب الرئيس يلقي بمسؤولية العنف على تيارات لها اتصالات «بجهات أجنبية»؛ وتحذير للقوى العالمية (التي تقدم مليارات دعما لمصر كأميركا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وألمانيا وفرنسا) بعدم التدخل في شؤون مصر، لمجرد نصيحتها بعدم اللجوء للعنف للتعامل مع المطالب المشروعة للملايين صانعي ثورة اللوتس التي كان لها جو احتفالي حتى نزول البلطجية إلى الشارع لضرب الناس وإحراق الممتلكات العامة.

انتهى التفاؤل المؤقت.

اللغتان المصرية والعربية تخلوان من مقابل دقيق لمفردة compromise الإنجليزية والأقرب لها «تنازلات»، بوقع سلبي «يوجع» الكرامة؛ والمعنى الأدق التوازن المشترك، بديناميكية بتقديم كل من الطرفين العروض، حتى التوصل لحل وسط. وهو مفهوم لا بد من تأصيله في العقلية السياسية لمهارة خاصة لإدارة الديمقراطية عند تعدد التيارات السياسية من أجل حوار يؤدي إلى تشكيل مجلس قومي انتقالي والتفاهم على قواعد اللعبة السياسية والانتخابات لإنقاذ المحروسة.

وجدت هذه المهارة أيام الديمقراطية البرلمانية المصرية (1922 - 1954) عند تشكيل حكومات ائتلاف وطني، عندما يعجز حزب واحد على اقتناص أكثر من نصف مقاعد البرلمان؛ فيوجه الملك زعيم الحزب صاحب أكبر عدد من المقاعد للتباحث مع حزب أو أكثر لتشكيل ائتلاف. وأثناء محادثات تشكيل الحكومة يتم compromise. الحزب «أ» الأكثر عددا يعدل من فكرة تخفيض الضرائب بنسبة 8 % إلى 5 % فقط، لتوفر 3 % اقتنع بها الحزب «ب» بدلا من 6 % زيادة دعم المواصلات كوعد انتخابي مقابل تولي وزير من «ب» حقيبة المواصلات، وحقيبتين أخريين في حكومة يرأسها زعيم الحزب «أ».

هذه المهارة، جزء من صميم العمل السياسي التعددي، ولا وجود لها في نظام الحزب الواحد كالاتحاد الاشتراكي.

لا يوجد في مصر اليوم من يجيد هذه المهارة؛ التي بدأت في التلاشي يوم رحيل رأس الدولة المصرية عام 1952، مفضلا فقدان عرش أبيه وأجداده وترك الأرض التي دفنوا فيها على إهدار دماء مصرية بأيد مصرية، من أجل إطالة بقائه في المنصب.