التفاوض حول التغيير

TT

ما يحصل اليوم في مصر هو تفاوض حول التغيير. فالثورات والتحركات الشعبية التي تطغى عليها اللغة العاطفية والحماس والمطالب الكبرى، لها مظهر آخر هو الذي يفرض منطقه في النهاية، وأعني به قدرتها على التعبير عن تلك المطالب وتحويلها إلى اللغة المؤسساتية عبر خارطة طريق حول شكل النظام الجديد. لا شك أن ما تشهده مصر اليوم هو بداية انطلاق عصر جديد في عموم المنطقة اقترانا بالمكانة المركزية التي تتمتع بها مصر. لكن من جانب آخر، فإن التأثير النهائي للحركة الشعبية الراهنة وما ارتبط بها من أحداث يعتمد على الكيفية التي سيتبلور بها التغيير مؤسساتيا ودستوريا، والمدى الذي سيصل إليه. وهنا، فإننا نشهد عملية تفاوض فيها طرفان رئيسيان؛ الطرف الأول هو النظام، والثاني هو الحركة الاحتجاجية وقوى المعارضة، وأن الطرفين إذ يدركان أنهما لا يستطيعان الحصول على كل شيء، فإن عملية تفاوض ضمنية تجري بينهما في الوقت نفسه الذي يتواصل فيه صراع الإرادات بينهما.

التحركات الشعبية تختلف في نتائجها وفي قدراتها على التغيير، فهناك ثورات شهدت تعبئة شعبية كبرى إلى حد إزالة النظام القائم وكل رموزه واستبدال نظام جديد تماما به، وهناك ثورات أخرى انتهت إلى إصلاح جذري في النظام، وهناك ثورات انتهت إلى إصلاح شكلي وتم إجهاضها عبر تغييرات غير جوهرية. الأمر كله يعتمد على كيفية إدارة عملية التفاوض وصراع الإرادات في الوقت نفسه. وما نشهده في مصر هو حركة شعبية واسعة النطاق وتعبر عن مطلب القطاع الأكبر من المصريين، لا سيما الأجيال الشابة، بالتغيير، وقد توفرت لها الظروف الاجتماعية والاقتصادية اللازمة لتحويل السخط إلى تحرك شعبي، كالتباينات الطبقية الشديدة، والبطالة العالية، وفقدان الأمل في المستقبل، فضلا عن شعور بأن النظام الراهن بطبيعته ورجالاته ينتمي إلى زمن مضى، إضافة إلى الإلهام الكبير للتحرك الشعبي التونسي. ثم توفرت لها أدوات التعبئة الجديدة التي لم يكن النظام قد حسب حسابها بسبب انتمائه ذهنيا لعصر ما قبل الإنترنت، فنجحت في إضعاف النظام وتحطيم صورته داخليا وخارجيا وبالتالي دفعه لقبول إعطاء تنازلات لم يكن يقبل حتى مناقشتها في ما سبق.

ولكن لأن التحرك الجماهيري لم يؤد إلى إسقاط النظام بشكل كامل وإقامة سلطة بديلة، كما أن النظام لم يتمكن من قمع هذا التحرك وإسكاته بالأدوات التي يمتلكها، فإن كلا منهما صار عليه أن يأخذ الآخر في الحسبان وأن يتفاوض معه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حول نوع التسوية التي يمكن تحقيقها لإنهاء الصراع. ولأن كلا الطرفين لا يثق كلاهما في الآخر، فإن الصراع يتواصل في الوقت نفسه الذي يجري الحديث فيه عن الحوار، وكلا منهما يسعى إلى إضعاف الآخر من أجل تحسين شروطه التفاوضية وتقديم تنازلات أقل. وفي الوقت الذي كان التحرك الشعبي يتصاعد فيه، كان النظام يدرك أن عليه أن يتنازل أكثر، لكنه لم يسبق التحرك في مستوى تنازلاته، مما يعني أنه لا يريد السماح بتغيير شامل، بدأ الأمر بإقالة الحكومة، ثم بإنهاء ملف التوريث عبر تعيين نائب للرئيس، ثم بإعلان الرئيس مبارك عدم ترشحه لفترة رئاسية أخرى، وفي كل تنازل راهن النظام على إضعاف الحركة الاحتجاجية عبر شق صفوفها باجتذاب أولئك الذين يغريهم هذا النوع من التنازلات، وعبر تحريك فئات شعبية أخرى تضررت اقتصاديا بفعل المظاهرات وما رافقها من أعمال عنف، وأخرى تعتقد أنها ستتضرر من تغيير أكبر. وبإدراك النظام أن القوى الخارجية، لا سيما الولايات المتحدة، لم تعد مستعدة لدعمه إذا لم يتغير، وغير مستعدة للمراهنة على رئيس مغادر ضد حركة شعبية صاعدة وبالتالي استعداء الأخيرة، فإن النظام كان يتفاوض مع الأميركيين ومع المحتجين حول مستوى التغيير. ما لا يريده النظام هو تغيير مهين يسمح بكتابة التاريخ من قبل خصومه، وما لا يريده هو ضرب كل المصالح والنخب التي يتشكل منها، وما لا يريده هو السماح لخصومه المختلفين تماما عنه بالسيطرة على البلاد، وهو سيسعى إلى أن لا تصطدم أي تنازلات مستقبلية يقدمها مع هذه الأهداف.

الحركة الاحتجاجية من جانبها خفضت سقف مطالبها من رحيل النظام إلى رحيل الرئيس، مدركة أنها لم تنجح في تحقيق ثورة كاسحة تزيل النظام تماما. ولكنها تواجه أيضا بسؤال حول ماذا بعد أن يرحل الرئيس، وماذا لو صمم على أن لا يرحل قبل الانتخابات المقبلة؟ ومشكلة هذه الحركة أنها لا تمتلك قيادة موحدة، وأن بينها مجموعات بمطالب مختلفة، وأن قوتها الوحيدة تكمن في قدرتها على مواصلة الاحتجاج، ومن دون هذه القدرة، فإنها ستكون الأضعف في صراع الإرادات، وبالتالي في التفاوض. لذلك فإنها تسعى إلى استثمار الضعف الراهن للنظام من أجل مواصلة الضغط عليه؛ إما ليعطي مزيدا من التنازلات، أو ليؤدي الضغط إلى انهياره وحصول صراع في داخله، وقد اتبعت في خطابها استراتيجية الفصل بين رئيس النظام ومجموعته الحزبية من جهة، وبين شخوص أخرى في النظام من جهة أخرى، كما فصلت بين القيادة السياسية وبين الجيش.

السؤال اليوم لم يعد هو ما إذا كان التغيير سيحدث؛ بل ما هي نوعيته وما هو مداه، وحول ذلك سيجري صراع الإرادات وتجري معه عملية التفاوض.