رصوا الصفوف.. ملايين وألوفا!

TT

في 15 ـ 16 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1991 أمضى الرئيس حافظ الأسد أكثر من خمس عشرة ساعة يناقش فيها العبارات التي يجب أن تستخدم في عملية مدريد للسلام للتعبير عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بما في ذلك التأكيد بشكل واضح بأن «القدس الشرقية جزء لا يتجزأ من الأراضي العربية المحتلة لعام 1967». وحق العودة لملايين الفلسطينيين إلى أرضهم، وحقهم في قيام دولتهم الوطنية المستقلة. ومن خلال الاستشهاد برسائل من الرئيس جيمي كارتر في 27 مارس (آذار) 1978 ورسائل من ريغان بتاريخ 29 يوليو (تموز) 1988 حاول الرئيس الأسد أن يبرهن لجيمس بيكر أن «الاعتراف بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني بما فيها حقوقه السياسية كانت دائما سياسة الولايات المتحدة التي يعبر عنها رؤساؤها» واستفاض الأسد بالحديث عن «العوامل المشتركة التي تجمع بين العرب» وأن «السلام العادل والشامل وإعادة جميع الحقوق بما فيها القدس واللاجئون هو السلام الوحيد الذي يمكن أن يكتب له الحياة». وفي لحظة عفوية قال بيكر «لا أعلم كم سيكون العالم العربي مهما لو أن العرب جميعا توافقوا على هذه الرؤية، إنها فكرة هائلة».

نادرا ما ينطق مسؤول غربي بما قد يفصح عن نقاط القوة لدى العرب التي لم يحسن حكامهم استخدامها حتى اليوم والتي وضعت في طريقها الاتفاقات الغربية والمعاهدات «الدولية» تحت مسميات مختلفة ولكن الهدف الغربي منها جميعا هو «إبقاء العرب مقسمين ومشرذمين». فبعد أن قطعوا جسد أمتنا إلى 22 دولة، ها هم يزرعون الفتنة والانفصال في كل دولة عربية، ونشهد كل يوم محاولات جديدة لتقسيم البلدان العربية، وتفتح مشاريع فتنة جديدة، كما في ذلك وضع المصلحة القطرية «أولا» وكأن ذلك في تناقض مع المصلحة العربية، وتم نشر العداء للأحزاب القومية في مقابل تشجيع المجموعات التكفيرية، وفرشت مخيلة الشعوب بوعود الانتعاش الاقتصادي في البلدان التي أنجزت اتفاقات سلام التي صممت لتكون ضمانة لهيمنة إسرائيل وغطرستها لتستمر في ابتلاع فلسطين كلها. في مقابل ذاك السلام الانفرادي، والخروج من صفوف الأمة، بلغ الصلف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين أشده دموية وغطرسة وإذلالا فأصبح شهداؤهم أرقاما دون أسماء، وأصبح هدم منازلهم، واستيطان أرضهم، وقتل الحوامل على الحواجز، واعتقال نسائهم من بيوتهم، واغتيال قيادييهم وحرمانهم من الحرية لا تستحق أن تكون خبرا في الغرب الذي دفع بعض الحكام لهذا السلام المنفرد. وساد طوال عقود «السلام» الماضية الإحباط بين صفوف الملايين من أجيال متتالية من العرب وهم يرون الدم العربي رخيصا لدى البعض من حكامهم الذين تمادوا في مصافحة الأيدي الإسرائيلية الملطخة بدماء العرب، وتمادوا بمهادنة مجرمي حرب من أمثال بوش الذي شن الحرب على الإسلام. لقد تمادى بعض الحكام في تزوير إرادة شعوبهم وصدقوا التزوير فتراهم يتكلمون الآن عن «الشرعية» وشعوبهم تلفظهم علنا. وفي خلال كل هذه السنوات العجاف التي جلبت المآسي المذلة على هذه الأمة، ومنها حرب تدمير العراق، والحرب المستمرة على لبنان والحرب على غزة وحصار شعبها من قبل العدو و«الشقيق» كنت دائما أكرر سؤالا واحدا لوسائل الإعلام الغربية: إذا كنا نحن العرب غير جديرين بالحياة كما تروجون وتصورون فلماذا هذا الانشغال الدائم بنا وبمنطقتنا؟

لقد تحفزت واشنطن خلال الأسبوعين الماضيين بطريقة لم يسبق لها مثيل، وأخذ المسؤولون الأميركيون يعقدون اجتماعات لمجلس الأمن القومي برئاسة أوباما، وأخذت وزيرة خارجية الولايات المتحدة تعطي تصريحات كل ساعتين، كما أخذ غيبس الناطق باسم البيت الأبيض، وفيليب كراولي الناطق باسم الخارجية الأميركية يظهرون على الشاشات أكثر مما ظهر نظراؤهم خلال الحرب على أفغانستان والحرب على العراق، ليس لدعم قضية الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان العربي، بل لإطالة عمر الأنظمة «الصديقة». هذا القلق غير المسبوق في الولايات المتحدة يعكس قلقا إسرائيليا حول أمنها الذي كفلته اتفاقيات السلام المنفردة، فكافأت إسرائيل العرب بالمزيد من الحروب، والجرائم، والمجازر، والاغتيالات، والاستيطان، ورفض أي شكل من أشكال السلام مع الفلسطينيين.

الحرب الإسرائيلية على العرب عبر اتهامهم بأنهم «إرهابيون» و«متخلفون» حضاريا، و«متعصبون» إسلاميون تهدف إلى تدمير الثقة العربية بالذات، وإلى إقناع العرب أولا قبل غيرهم بأنهم غير جديرين بالحياة، فيصابون بالمزيد من الإحباط، والعجز حين يعيث أعداؤهم بهم فسادا دون مقاومة منهم. ما أعجز البعض من حكامنا عندما يشتركون في الحملة الغربية الهوجاء على المقاومة العربية للاحتلال الإسرائيلي وملاحقة المقاومين كمجرمين؟

لقد أدرك أعداؤنا أن العروبة هي التي تجمعنا وتوحدنا، وأن القوة تكمن في تعاوننا، ولذلك فقد حاولوا زعزعة رابط العروبة المقدس، واستبدلوه بالتناحر الديني، والعرقي، والطائفي وصولا إلى تقسيم الأوطان، وزرع الفتنة في صفوف شعوبنا. ومن هنا يأتي الضعف العربي السياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي، فهل يمكن أن يتخيل المستثمر مثلا فضاء استثماريا عربيا واحدا تحكمه القوانين والإجراءات والأهداف ذاتها في سوق عربية لما يقارب أربعمائة مليون عربي بدلا من 22 فضاء استثماريا صغيرا تحكمها قوانين وإجراءات وأوضاع مختلفة؟ كان هذا بحد ذاته سيحول العرب إلى قوة اقتصادية صاعدة ويلحق ركبهم بركب الصين والهند والبرازيل وتركيا وهذا ما لا يريده لنا أعداؤنا في إسرائيل وحلفاؤهم في واشنطن والعواصم الغربية التي كنا نسمع صراخها عن الديمقراطية، وهاهي اليوم نراها مترددة، خائفة من انتشار الديمقراطية العربية.

الحقيقة أن الدم العربي رخيص على أعدائنا، ولا شاغل لهم سوى مصالحهم في أرضنا، وأطماعهم في ثرواتنا، وقلقهم على أمن الكيان الصهيوني. فعلى ماذا يتباكى بعض حكام العرب على «أصدقاء» لهم «مخلصين» في واشنطن؟ أولم يروا، مرة تلو أخرى، كيف لفظت واشنطن «أصدقاء حميمين» لها حين أصبحت مصالحهم في دائرة الخطر؟ أولم يروا أن كل ما تحرص عليه واشنطن هو استمرار مصالحها بغض النظر عمن يتمكن من اعتلاء كرسي السلطة ديكتاتورا كان أم طاغية؟

لقد برهنت الجماهير بتصديها بصدرها العاري لأجهزة قمع، دربتها القوى الغربية، أن واشنطن تخشى الديمقراطية في العالم العربي، فترى سياسييهم وإعلاميهم يتساءلون: هل يمكن أن يحافظ نظام ديمقراطي عربي على العلاقة ذاتها مع إسرائيل؟ لقد شاهدنا حين انتفض بعض الإيرانيين ضد النظام هناك كيف تم تحويل اسم «ندى سلطاني» إلى شهيدة كونية للحرية، وتم نشر صورها في كل جرائد الغرب، وخرج أوباما بنفسه حزينا على موتها، بينما فشل الإعلام الغربي أن يذكر إلى حد اليوم اسم شهيد من شهداء الحرية العرب، فهم لا يعيرون قضية الحرية أي اهتمام، ولا قضية الديمقراطية في العالم العربي، سوى اللهم كشعارات ضد من يقف ضد مشاريعهم المعادية للعرب. ولذلك قتلت إسرائيل الديمقراطية الفلسطينية بدعم أميركي معلن، ولذلك تسمعهم يتساءلون: لماذا نهض العرب الآن مطالبين بالديمقراطية؟

إن ما أثبتته الجماهير العربية هذه المرة هو ما أثبته العرب دوما على مر القرون، وهو أنهم شعب حر أبي يعشق الحرية، وأنهم حين يريدون الحياة فلا بد أن يستجيب القدر، ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للظلم أن يندثر. ولا شك أن ما تقدمه الجماهير العربية اليوم ينير الطريق أمام أبناء هذه الأمة، اليوم وغدا، لتتمسك بقيمها السامية، وبعوامل قوتها، وترفض ذل رضوخ الحكام لمطامع الاستبداد، والفساد، والتبعية للأجنبي. لقد حررت شعوب أميركا الجنوبية أوطانها التي كانت تسمى الحديقة الخلفية للولايات المتحدة من تأثير وهيمنة واستغلال قوة كبرى لشعوب أصيلة مضطهدة وأصبحت بعد عقود من الكفاح من أجل الحرية قوى صاعدة يحسب لها حساب. ومن أجل ذلك علينا أن نرص صفوفنا، لنواجه العالم أمة عربية واحدة جديرة بالحياة الحرة الكريمة، وبموقع لائق لنا تحت شمس الحرية والازدهار والكرامة.