مصر إلى خير كبير

TT

مصر تبدو في المرحلة الأخيرة من الخروج من أزمتها، وهي الأزمة التي لا تزال تسميتها محط تجاذب، فهناك من يسميها «ثورة»، وآخر من يسميها «مظاهرات»، وغيره من يسميها «انتفاضة». أيا كان فهي نقلة تاريخية في تاريخها. هناك اتفاق يجري ترتيبه وسيشتمل على: صلاحيات تنفيذية لنائب الرئيس المصري، وانتخابات برلمانية جديدة لمجلسي الشعب والشورى، وإعادة صياغة جديدة للدستور بأكمله، وحرية مضمونة للتجمعات العامة وللإعلام، وبعض التفاصيل الأخرى المهمة أيضا.

الحكومة كانت تتفاوض مع تيارات مختلفة تشكل الحراك المعترض، ومع كل مطلب يحقق ويقدم كتنازل من الحكومة لصالح المعارضين كان لسان حالها يقول «كفاية.. كده»، وطبعا كان المعارضون لسان حالهم يقول: «نريد المزيد»، ولكن يبدو أن الوضع آخذ في الاستقرار التدريجي، والحياة بسماتها الأساسية تعود إلى طبيعتها، فالناس تنزل إلى عملها، والمصارف والمحال فتحت أبوابها، وساعات حظر التجول تم تعديلها بشكل أفضل، والحوار السياسي يتطور.

وماذا عن وضع الرئيس حسني مبارك نفسه خلال كل ما يحدث؟ أجد هنا تعليقا جميلا لصديق كنت أحادثه عن هذه النقطة تحديدا فقال لي: «الرئيس مبارك سيكون بمثابة الجد في البيت، الكل يقدره ويحترمه، ولكن لا أحد يأخذ برأيه في ما سيقوم بعمله». الحكومة وجزء كبير من الشعب بات اليوم مقتنعا بأن على مصر أن تحفظ لحسني مبارك حق إتمام المدة والختام الكريم لمسيرته، وأن تكون المهام التنفيذية لنائبه عمر سليمان ولرئيس وزرائه أحمد شفيق، اللذين نالا المحبة والاحترام والتقدير في زمن قياسي وفي ظروف أقل ما يقال عنها إنها صعبة واستثنائية.

مصر ستكون دولة مختلفة، ولعل كل ما حدث هو خير عظيم. الناس أدركت قوتهم في وحدتهم وفي عدالة ما طلبوه، والحكومة (أيا كان شكل هذه الحكومة) ستكون مسؤولة أمام الناس؛ لأن وسائل الرقابة والمساءلة والمحاسبة والشفافية تغيرت، القضاء ستكون له هيبة واستقلال جاد وحقيقي، البرلمان سيكون تمثيلا للشعب بدلا من أن يكون «تمثيلية» عليه، صناعة القوانين والأنظمة ستكون أصدق وأدق بدلا من أن تكون تفصيلا وبالمقاس لصالح شخص أو فئة أو حزب، الاحتكار الاقتصادي سيكون مراقبا ومدققا لمنع التجاوزات والانتفاعات الباطلة من خلاله، والإعلام ستكفل فيه حرية التعبير عن الرأي وعدم ممارسة البطش والتفرقة بشكل انتقائي، وهذا طبعا لا بد أن ينعكس على الإعلام الرسمي ليتطور ويكون أداة و«صوتا» للناس بدلا من أن يكون «سوطا» عليهم بالأكاذيب والمغالطات وإخفاء الحقيقة والنفاق.

لن يكون، ولا من المقبول، استمرار النغمات القديمة التي كانت سائدة. هذه مصائر شعوب وكرامات بشر يجب أن تحترم، ستكون هناك خطوط تماس جديدة ومفصلية في العلاقة بين الحكومة والشعب، وبين البرلمان والحكومة، وبين الحكومة والجيش، وبين الجيش والرئيس، وبين الرئيس والحكومة، بدلا من أن تكون كما كانت من قبل: مجموعة من العلاقات الهلامية ومن الخطوط المتداخلة غير المفهومة. لن تكون مصر المدينة الفاضلة كما وصفها الفيلسوف اليوناني أفلاطون، ولكنها حتما ستكون أفضل مما كانت عليه، فهذه الحركة الشبابية بتبعاتها مع النظام والحكومة كانت أشبه بالـ«DETOX» أي التطهير الكامل للجسد السياسي، إنها «حجامة سياسية» بامتياز، وهي روح الشباب ومطالبهم. وهذا هو الذي يجعل الرهان على مستقبل مصر بأنه ماض إلى خير عظيم، مسألة واقعية. لأنه لو تحقق هذه كله نتاجا للحراك الشبابي، سيكتب لمصر الانتقال إلى مكانة جديدة بين الأمم تليق بحضارتها التاريخية الكبيرة، وهي المكانة التي عطلتها وكبلتها آثار انقلاب 1952 التراكمية.

[email protected]