البيئة والاقتصاد.. جدة تهدر 34 مليار ريال

TT

هناك معادلة بيئية أدركتها جميع دول العالم الاقتصادية المتحضرة، هي أن أي تنمية اقتصادية مستدامة Sustainable Development لا يمكن أن تقوم لها قائمة من دون أن ترتكز على مفاهيم البيئة المستدامة Sustainable Environment، والبيئة المستدامة تعني، في أبسط معانيها، حفظ حقوق الأجيال المقبلة في الموارد الطبيعية، بمعنى أنه لو دعتك الظروف الاقتصادية أن تقطع شجرة فعليك قبل قطع هذه الشجرة أن تغرس شجرتين، وهذه ترجمة واضحة لمعنى حق الأجيال المقبلة في الموارد الطبيعية.

جميع النظم البيئية على سطح كوكبنا الأزرق تعرضت، منذ عصر النهضة وحتى يومنا هذا، لهجمات شرسة من جميع أنواع التلوث، منها، على سبيل المثال لا الحصر: التلوث الصناعي والتلوث العضوي، وأقصد بذلك التلوث بمياه الصرف الصحي، أو بحفر وردم المناطق الساحلية في النظم البيئية البحرية، وهذا بلا شك كان له تأثير سلبي كبير على مفهوم البيئة المستدامة، وهذا بدوره لم يكن له تأثير سلبي فقط على الاقتصاد العالمي، بل أصبح الأمر يهدد وجود الإنسان نفسه على كوكب الأرض، وذلك بعد تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري Global Warmingعندها أدرك العالم خطورة الموقف فنادت الأمم المتحدة جميع دول العالم لمواجهة هذا الخطر، فعقدت الكثير من المؤتمرات، منها: قمة الأرض في ريو دي جانيرو، وصدور بروتوكول كيوتو في اليابان، إلى قمة كوبنهاغن، وأخيرا قمة كانكون في المكسيك.

وظاهرة الاحتباس الحراري وجميع الظواهر الطبيعية الأخرى المنبثقة عنها مثل ظاهرة النينو El-Nino وظاهرة الثنائية القطبية للمحيط الهندي Indian Ocean Dipoleوذوبان الجليد من القارة القطبية الجنوبية وغرين لاند والقطب الشمالي، الذي أدى بدوره إلى ارتفاع المياه السطحية لبحار ومحيطات العالم الذي أغرق الكثير من جزر العالم، خاصة الجزر الواقعة في البحار والمحيطات الاستوائية، دلتا الأنهر في العالم أيضا تأثرت بارتفاع مناسيب المياه السطحية للبحار والمحيطات، خاصة دلتا البنغال، ومصر الحبيبة، حماها الله، فقدت في العقدين الماضيين أكثر من 5 ملايين فدان من خيرة أراضيها الزراعية في منطقة دلتا النيل!! فتخيل، أخي القارئ، حجم الخسارة الاقتصادية التي يتعرض لها العالم من جرَّاء التغير السلبي في النظم البيئية على سطح الأرض سواء أكان ذلك بفعل الإنسان أم بفعل الطبيعة، في عام 1998 عندما فعلت ظاهرة النينو الأفعال في التغير المناخي في العالم كان لذلك تأثير مدمر على الاقتصاد العالمي، فتجارة البن البرازيلي انتعشت نتيجة لهطول الأمطار الشديد، بينما تقهقرت تجارة البن الكيني نتيجة الجفاف (La Nina) الذي أصاب كينيا، صناعة مصائد أسماك الأنشوقا التي تشتهر بها كل من الإكوادور وبيرو توقفت تماما نتيجة لهجرة أسماك الأنشوقا جنوبا إلى دولة تشيلي بحثا عن المياه الباردة، وبالتالي انتعشت هذه المصائد في دولة تشيلي، وكما يقال: مصائب قوم عند قوم فوائد.

ظاهرة النينو عام 1998 تسببت في ارتفاع درجة حرارة المياه لسواحل الولايات الغربية الأميركية، الأمر الذي تسبب في اختفاء أسماك الحبار، مما أثر سلبا على مصائد وصناعة أسماك الحبار في هذه الولايات، وكان لهذا الأمر آثار اقتصادية سلبية على اقتصاد هذه الولايات تمثلت في تسريح آلاف العمال من مصانعهم.. أردت من هذه المقدمة البسيطة أن أوضح أن أي تغير في أي عامل من العوامل الطبيعية سواء أكان ذلك بفعل الطبيعة أم بفعل الإنسان سيكون له حتما تأثير وخيم وسلبي على أي تنمية اقتصادية.

في جريدة «الشرق الأوسط» (الملحق الاقتصادي) الصادرة بتاريخ يوم الأربعاء 29 صفر 1432هـ ذكر أحد الخبراء الاقتصاديين أن خسائر مدينة جدة في كارثتها الأخيرة بلغت نحو 4.5 مليار دولار، أي نحو 17 مليار ريال سعودي، ولو أضفنا هذه الخسائر إلى خسائر الكارثة التي حدثت العام الماضي لكان مجموع خسائر مدينة جدة من هذه الكارثة نحو 34 مليار ريال، هذا باستثناء أرواح الشهداء التي لا تقدَّر بثمن، والآن أتوجه لمن تسببوا في هاتين الكارثتين: هل ما اكتنزتموه في بطونكم يساوي هذه الخسائر؟ هل ما اكتنزتموه في بطونكم يساوي دماء هؤلاء الشهداء؟

يا سادة.. أنظمة المناخ العالمية تتجه جهة التطرف: تطرف في شدة الأمطار! تطرف في شدة الجفاف! تطرف في شدة العواصف الترابية! تطرف في شدة التصحر! والعالم يحاول جاهدا أن يضع الحلول لعدم تفاقم هذا التطرف، لكن نحن في المملكة العربية السعودية بجهلنا وجشعنا وفسادنا نقف في صف هذا التطرف، فهدمنا بمعاول الحفر والردم كل معنى من المعاني التي تقوم عليها أسس ومبادئ التنمية المستدامة! فلم نورث لأبنائنا وأحفادنا سوى الخراب والدمار في جميع نظمنا البيئية! ففي البحر حفرنا وردمنا وجرفنا شواطئه التي تمثل أحد أهم مواردنا الاقتصادية، التي قد تمثل صمام الأمان من الجوع والفقر! ولم نكتفِ بذلك؛ بل لوثنا شواطئه الجميلة بمياه الصرف الصحي، فهل يعقل أننا نلوث شواطئ عروس البحر الأحمر مع إشراقة كل صباح بما يزيد على 400 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي؟ هل يعقل ما يحدث من صيد جائر بجميع الطرق المشروعة وغير المشروعة لثرواتنا السمكية؟ أين التنمية المستدامة؟ وأين مبادئ البيئة المستدامة؟ ماذا تركنا للأجيال المقبلة؟ تبا لنا بما اقترفت أيدينا من تفريط في ثروات بيئتنا التي هي أمانة في أعناقنا وحق من الحقوق المشروعة لأجيالنا المقبلة.

الاعتداء الصارخ على البيئة كان من أهم الأسباب التي أدت إلى حدوث الكارثة، فمجاري السيول خلقها الله من ملايين السنين لتكون لها وظيفة محددة هي توصيل مياه الأمطار إلى البحر!! هل يعقل أن نغير من وظيفة هذه الأودية ونحولها إلى مخططات سكنية نعرض فيها أرواح الأبرياء للخطر؟! ألم يدرك من فعل هذا الأمر أن هناك قوانين للجاذبية خلقها الله تسير بقوانينها المياه من منطقة إلى أخرى، ولا تستطيع أي قوة أن توقفها حتى تصل منتهاها في البحر؟ عجبي على أناس تجردت ضمائرهم من الخوف من الله.. هم ولا شك بحكم سطوتهم قادرون على الإفلات من سلطة القانون الوضعي! ونسوا وتناسوا قانون السماء! فحسبي الله عليهم.

* استاذ علم البيئة

في جامعة الملك عبد العزيز