فن الاستيلاء على انتفاضة شعبية

TT

الحكم فن أكثر مما هو علم. هناك قاعدة علمية للحكم. كلما كان الحاكم فنانا واسع الخيال. قادرا على التجديد والابتكار، تجاوب المحكومون مع لعبته. مع طاقته على الاجتذاب. على الإلهام. والإلهاء.

الوصول إلى الحكم أصعب من التربع على قمته. في النظام الجمهوري، المنافسة شديدة على الوصول، سواء كان ديمقراطيا، أو أوتوقراطيا (مطلقا). في العصر العربي، عرف عبد الناصر كيف يصل. وكيف يحكم. اختصر رغبة الإخوان في الحكم. فقد كانوا بلا خيال. بلا عصرنة. كانت قدرة عبد الناصر على الإلهام. والاجتذاب، لا تبارى. لكن لم يعرف كيف يورث.

ضرب السادات (الوارث) الناصريين. صالح إسرائيل. حاول إلغاء عروبة مصر. استعان بالإخوان. سجن الطيف السياسي كله. فاغتاله تنظيم ديني خارج من رحم الإخوان. عرف صلاح جديد كيف يصل. ولم يعرف كيف يحكم. عرف حافظ كيف يصل. ويحكم. ويورث. ورث حسني مبارك بسهولة نظاما يملك الشرعية العسكرية.

كان مبارك أوسع خيالا من السادات. أفرج عن الجميع. ضيق على الإخوان. لاحق «الجهاديين» والتكفيريين. أعاد مصر إلى قلب العروبة. بل حارب الفساد. لاحق عصمت شقيق السادات. حيد جيهان.

مصر يسهل حكمها. تصعب إدارتها. حكم مبارك مصر ثلاثين سنة. مع تقدم العمر، يفقد السياسي الخيال. فقد مبارك القدرة على الاجتذاب والإلهاء. بالمقارنة مع الحال في النظام العربي، لا أعتبر مبارك دكتاتورا. بل كان ضحية انفتاحه المحسوب: حريات التعبير. الأحزاب. الحوار. المعارضة. الصحافة.

ربما كانت لمعركته الناجحة ضد العنف الجهادي، سلبيات. تحول جهاز الأمن إلى جهاز قمع. مع الليبرالية، تحالف النظام مع رجال البيزنس. مع أزمة الرأسمالية العالمية، استوردت مصر غلاء أسعار الغذاء والسلع. لم يعرف النظام كيف يستقطب الطبقة الوسطى الجديدة، فانضمت إلى البروليتاريا الفقيرة. لم يعرف كيف ينظم الأسرة. فاستولد ثلاثين مليون طفل. صاروا شبابا بلا أمل.

من المشرق إلى المغرب، هناك انتفاضة على النظام الجمهوري. طبقة شابة جديدة متمردة. بإلغائه السياسة، ضمن النظام لها الحماية من الآيديولوجيا الدينية والسياسية. لكن لم يضمن لها الرعاية. لم تعرف منه حنانا. تعاطفا. عملا... فطالبته بالكرامة. بالحرية. بالغذاء. لم تطالبه بآمال جيل مضى في الوحدة. في استعادة الأرض المحتلة. بل لم تهتف بسقوط أميركا. أو إسرائيل.

عندما يهتز نظام بلا قدرة على الاستمرار، يتجدد فن الصراع على السلطة. في مصر اليوم، سباق داخلي وخارجي محموم، لانتزاع المبادرة من طبقة شبابية تملك البراءة. ولا تملك التجربة. والخبرة.

في إصرار الانتفاضة على ترحيل مبارك فورا، تتوفر الفرصة أمام القوى السياسية الأكبر عمرا وتجربة، لتصفية المبادرة. لصبغها بألوانها الدينية أو السياسية. في إصرار مبارك على استكمال ولايته الدستورية، هناك فرصة شهور، لبلورة قيادة شابة. زعامة تحمي الانتفاضة من السطو. من الخطف. من استلاب المبادرة، وتجييرها لخدمة ليبرالية محمد البرادعي الباهتة المتحالفة مع الجمودية الإخوانية المحافظة.

إشكالية الانتفاضة تكمن في بعثرة اتجاهاتها. هناك اشتراكيون. نقابيون. طلبة. مثقفون. أميون. ثوريون رومانسيون. لحق البرادعي بالانتفاضة في حلمه ليصبح رئيسا، دمر قدرة الانتفاضة على الصبر.

الإخوان يتقدمون وئيدا لملء الفراغ. فن الاستلاب يفرض عليهم القبول مرحليا بزعامة البرادعي، أو رئاسته لنظام تعددي، لهم فيه دور المشاركة، ريثما يستكملون مخططهم للانفراد بالحكم. وإعداد المزاجية النفسية المتسامحة لدى المصريين، لقبول نظام إخواني صارم، تماما كما حدث بعد «أسلمة» غزة التي «تنعم» اليوم بلهيب إمارة إخوانستان.

في مصر اليوم، مائة ألف أميركي. وسفارة أميركية هي الأضخم في العالم. بعد السفارة في بغداد. هؤلاء هم نتاج زواج المتعة بين النظام المصري وأميركا، في الحرب المشتركة ضد العنف الديني.

في هذا الزواج، فضلت أميركا تأمين الاستقرار. على نشر الديمقراطية. الطرافة أن جورج بوش الابن الذي لا يعرف شيئا عن العالم، هو الذي اقترح على العرب تجميلات ديمقراطية، في إطار مشروع شرق أوسطي. رفض العرب «النصيحة» متعللين بأجنبيتها المفروضة، وبخوفهم من تذويب العروبة في حوض أوسطي، يضم يهودا. أتراكا. أكرادا. باكستانيين. وإيرانيين.

في حروبها «الإسلامية»، تراجعت أميركا أوباما عن تذكير العرب بالديمقراطية. رفعت شعار المصالحة مع الإسلام. آه، من أميركا! سارعت إلى الغدر بحليفها مبارك. تستعجله مع السيدة نجاة «الرحيلا»، لتتمكن من هدهدة وركوب الانتفاضة.

البرادعي لغز بالنسبة لأميركا. أزعجها في التسامح مع مخطط إيران النووي، عندما كان مديرا للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولعدم وضوح سياسته تجاه إسرائيل. ومع ذلك فأميركا تحاور الإخوان الحلفاء المرحليين للبرادعي، حول السماح لهم بدور في حكم مصر الجديدة، شبيه بدور إخوان العراق في التعاون مع الاحتلال.

في استئثار المؤسسة العسكرية المصرية بكامل المساعدة المادية الأميركية (1.5 مليار دولار سنويا) لشراء سلاح حديث من أميركا، تستغل إدارة أوباما الفرصة للضغط على جنرالات مصر، لترحيل مبارك فورا! قطع الفريق سامي عنان رئيس الأركان، ورجل الجيش القوي، زيارته لواشنطن، ليعود سريعا إلى القاهرة. بعد عودته، تدخل الجيش للفصل بين أنصار مبارك وجمهور الانتفاضة.

إلى هذه اللحظة، ما زالت قيادة الجيش موالية لمبارك. حوار الجيش مع إدارة أوباما يجري من خلال اللواء عمر سليمان الذي عينه مبارك نائبا له. سليمان يتمتع بمصداقية كبيرة. في نزاهته وبعده عن الفساد، يحظى سليمان بتأييد الجيش. النظام. الانتفاضة. وإدارة أوباما.

في انتظار حسم الجيش لموقفه الحريص على استكمال مبارك ولايته الدستورية في سبتمبر المقبل، يبدو عمر سليمان أكثر المتنافسين حظا في الرئاسة.

في منافسة البرادعي، ظهر على المسرح عمرو موسي. هذا المرشح عروبي متعدد المواهب. شارك في دبلوماسية الكامب المصالح لإسرائيل. في ذكائه الدبلوماسي، صاهر عمرو موسى أسرة عبد الناصر. لكنه يحظى بقبول فاتر، لدى الأسرة العربية، لمحاولته إنقاذ الأسرة الصدامية الحاكمة. أبعده مبارك من وزارة الخارجية إلى الجامعة العربية، عندما أصبح عمرو عبئا على سلام بارد مع إسرائيل.

هناك مثل مصري طريف يقول: «عريس الغفلة والباب بلا قفلة». فإلى جانب هؤلاء المرشحين، هل يظهر فجأة مرشح يقلب التوقعات؟ مرشح على اليمين؟ على اليسار؟ مشرح ديني. مدني. عسكري؟ ليبرالي. اشتراكي؟ لا أحد يعرف. لكن «ليالي الحلمية» حبلى بالمفاجآت. في مسيرتها الحضارية عبر سبعة آلاف سنة، في نضجها المزاجي. في نفسيتها السهلة. المرحة. في براءة انتفاضتها، من سلاح قاتل في العراق، ومن صاروخ عاجز في غزة، تظل مصر حبيبة العرب. وأملهم. إن لم تعد قائدة لهم، فهي تبقى ملهمة. يفقد العرب في غياب مبارك. صديقا. ودودا. لم يتدخل في شؤونهم. لعل القاعد، أو النظام الجديد يتذكر فلسفة تاريخية: كلما انحسر نفوذ مصر في العالم العربي (لصالح اختراق تركي. إيراني. إسرائيلي) خسرت مصر استقرارها الداخلي.