حروب الكاميرا في ميدان التحرير

TT

في كل حدث ضخم ينقسم الإعلام، أتحدث عن الإعلام العربي، إلى معسكرين، بكل ما تفيد كلمة معسكر من دلالات خندقية حربية، ينحاز الناس طبقا لما تمليه عليهم قناعاتهم وأحيانا عواطفهم الأولية التي قد تتغير تبعا لتغير المعطيات.

تذكرون تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) في أميركا، في البداية سادت حالة من الفرح والانتشاء بصفع أميركا هذه الصفعة المدوية، ثم بدأت المواقف تتخثر والقشرة الأولى تتصلب، وافترقت مواقف الناس في العالم الإسلامي العربي بعد ذلك إلى شعوب وفرق، وكل فرق كالطود العظيم.

في تلك المرحلة أيضا كان الإعلام العربي، صحفا وفضائيات، منقسما حول الحدث.

جرى ذلك في أكثر من محطة ساخنة في العقد الأول من الألفية الجديدة، حرب أفغانستان، حرب إسقاط صدام حسين، حروب حزب الله، حرب غزة، ثم أحداث السودان، وثورة تونس، وأخيرا احتجاجات مصر.

لماذا يختلف الإعلام العربي حول هذه الأحداث؟

طبيعة التفسير للأحداث وطبيعة المصالح تختلف، وهذا أمر عادي وليس مدعاة للهجاء أو للمديح، هذه طبيعة البشر وهذا منطق الاختلاف في المصالح، ولو كانت الفضائيات العربية مثل قناة «الجزيرة» أو قناة «العربية» تؤثر مثلما هي اليوم، لكنا رأينا نفس الاختلاف والتباين في الأسلوب فيما يخص غزو صدام حسين للكويت 1990، كنا سنرى قناة «الجزيرة» تتبنى خطاب لطيف نصيف جاسم (وزير إعلام العراق حينها) وتفسح ساعات غزيرة من البث لإخوان الأردن أو جماعة ياسر عرفات أو أصوليي الجزائر وقوميي مصر أو بعثيي اليمن الذين هللوا وطبلوا لغزوة صدام حسين، وكنا في المقابل سنرى قناة «العربية» تعطي المجال أكبر وأكثر للصوت الكويتي المقاوم، ولآراء الشارع الخليجي أو الشارع العربي (بعضه) الرافض لغزو صدام، طبعا ستحرص كل من «الجزيرة» أو «العربية» على وجود مساحات معينة للصوت الآخر، ولو تم التحكم بنسبة وطبيعة هذا الحضور، لأن وجود صوت واحد أو طرف واحد في أي قضية إعلامية يحولها من وسيلة إعلامية لديها الحد الأدنى من المهنية إلى مجرد خطبة وعظ صاخبة.

ما يسري على الفضائيات يسري طبعا على الصحف، وكلنا يتذكر معركة صحيفة «الشرق الأوسط» مع من هاجمها سواء من الأصوليين أو القوميين بحجة أنها لا تتبنى لغة صحيفة «القدس العربي»، مثلا، التي تقوم على لغة التعبئة والهجوم المنهجي على خصوم التيار الثوري في العالم العربي، بشقيه الأصولي والعلماني.

لقد خاضت جريدة «الشرق الأوسط» معارك إعلامية كبرى في غزو صدام للكويت ثم في هجمات 11 سبتمبر وغزوة حزب الله لبيروت أو حرب غزة وحرب العراق وغير ذلك من المحطات الساخنة.

لكن بسبب غلبة الثقافة التلفزيونية أو ثقافة الصورة، حسبما يصفها علماء الاتصال، فإن الشاشة بطبيعتها الحركية المزامنة للحظة الحدث، يبدو التأثير الآني فيها أسرع وأكثر ظهورا، وإن كان بالضرورة ليس أعمق.

في أحداث تونس ومصر نلاحظ أن قناة «الجزيرة» حظيت بتحية من كثرة من المحتجين، وهذا شيء طبيعي بسبب أن القناة تحولت إلى مكبر صوت للمظاهرات وأداة تعبئة وحشد وتوجيه معنوي، وخرجت حتى عن سلوكها السابق الذي كان لا يخلو من هذا النفس التعبوي! صارت «الجزيرة» منبرا لبث المحتوى الإعلامي الذي يرفع من معنويات المحتجين ويسهم في إضعاف «الجبهة» المضادة التي هي السلطات والحكومات. هنا نحن أمام لون آخر من الإعلام هو الإعلام التعبوي، وهو بالمناسبة ليس عيبا ولكنه إعلام يمثل طرفا في الصراع، مثل إعلام الجيوش أو إعلام حزب الله، ومن مهام الإعلام التعبوي الخطابة ورفع المعنويات وإضعاف العدو، وتقديم صورة زاهية عن انتصارات مضخمة. في الحالة المصرية كانت «الجزيرة» تضرب الأرقام ضعفين أو خمسة أضعاف بالنسبة لأعداد المتظاهرين أو القتلى. أما «العربية» فكانت تغطي الأحداث بشكل متأرجح؛ تارة تفسح المجال أوسع لأنصار سلطة الرئيس حسني مبارك، الذين بدا عليهم التشويش والاضطراب في بداية الصدمة، ثم أخذت منحى أكثر ميلا إلى أصوات المعارضة والشبان المحتجين، بل وحتى الإخوان المسلمين من خلال بث مقابلة في بداية الأحداث مع مرشد الجماعة «الحديدي» السابق، مهدي عاكف. لكنها سرعان ما أخذت منعرجا آخر متأرجحا بين صوت الاحتجاجات ومساعي الخروج من الأزمة والحوار.

قال لي صديق إعلامي، وهو منحاز لثورة شبان التحرير ضد السلطة: «لا أستطيع متابعة الجزيرة بشكل مستمر، لأنني أشعر أنها تمسك بعنقي وتلفه لفا نحو وجهة محددة، وأقول لنفسي مخاطبا القناة: دعوني أختر وجهتي، أنا مع ثورة شباب التحرير، لست بحاجة إلى هذا الحقن والإرضاع المنهمر منكم!».

السؤال الذي يطرح نفسه: هل تلام قناة «الجزيرة» على هذا السلوك والتعبئة الإعلامية؟ خصوصا أن الشبان الغاضبين أو بقية المحتجين لا يريدون في هذه اللحظة إلا من يتبنى مواقفهم وأخبارهم وتفسيراتهم للأحداث، وفقط. أعتقد شخصيا أنها لا تلام، ما دامت ترى أنها لاعب رئيسي في المنطقة، تتجاوز أوزان الدول، وما دامت ترى هي ومن يوجهها أن أسلوبها يجدي نفعا ويحصد زرعا. ومن هنا فإن طبيعة تغطيتها للأحداث كانت منسجمة مع طبيعة الخطاب الإعلامي للمحور الإيراني السوري، ومعه دولة قناة «الجزيرة». وقد رأينا أسلوب «الجزيرة» في تغطية مظاهرات إيران، لقد كان باردا ومنحازا لرواية جماعة أحمدي نجاد، ولم نر الحرارة والتعبئة التي مارستها «الجزيرة» في المشهد المصري، ومن المؤكد أنها لن تغطي بذات الاندفاع لو جرى شيء ما في سورية!

«الجزيرة» تحولت إلى حزب اسمه «حزب الجزيرة» له «مريدوه» وأنصاره، بل وله علاقات دولية مع الدول، ويكفي أن تقرأ على موقع «الجزيرة» هذا الخبر الذي نشر بالأمس بهذا العنوان: (أميركا تصلح العلاقات مع «الجزيرة»). ثم يكمل الخبر: «شهدت الأسابيع الأخيرة محاولات تودد من قبل إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لشبكة الجزيرة الفضائية، في محاولة لكسر تاريخ من الجمود شاب العلاقة بين الجهتين».

إذن نحن أمام جهات كبرى بحجم أميركا وقناة الجزيرة تصلح علاقاتها مع بعضها البعض!

الصراع على الصورة وتوجيه الخبر جزء من طبيعة المشهد، الإعلام ليس ناقلا للحدث فقط، بل هو صانع له وموجه لمساره. حتى المتظاهرون والسلطات يدركون ذلك جيدا، ولذلك كان التساؤل الذي طرحه الناقد اللبناني إبراهيم العريس وجيها عن فقدان البراءة الأولى في مظاهرات ما قبل عصر الفضائيات والكاميرا بشكل عام، حينما كتب مؤخرا في زاويته الرائعة في جريدة «الحياة» (ألف وجه لألف عام) عن ثورات ما قبل تلفزيون الواقع، وقال: زمن التلفزة و«الخبر المباشر» حول كل التظاهرات والاحتجاجات إلى نوع من «تلفزيون الواقع». ثم تحدث عن ثورات الستينات البريئة وقال: «من يعود إلى الشرائط والصور التي ترصد تظاهرات تلك السنوات النضالية الحقيقية مهما كان موقفنا، اليوم، منها، وسنوات السياسة الصاخبة التي كانت تؤمن حقا أن حركة الشارع يمكن أن تغير العالم، يمكنه أن يرى مقدار الصدق والجدية على ملامح أصحاب الشأن، وكذلك إيمانهم بما يفعلون من دون أن يبالوا حقا بما إذا كانت التلفزة تصورهم أم لا».

يبدو كلام العريس قاسيا، لكنه يتحدث بشكل عام وليس عن ما جرى في القاهرة أو تونس قطعا، لأن ما جرى من قبل الشباب هذه الأيام حدث ضخم ومعقد من الصعب اختزاله في مؤثر واحد، مثل الإعلام، لكن الأكيد أن للإعلام دورا كبيرا فيما جرى، بالذات بعدما اندمج الإعلام التقليدي (تلفزيون وصحف) بالإعلام الحديث (موبايل وإنترنت) وأصبح الكل يخاطب الكل ويحرص على احتكار إخراج المشهد.

المنظر مختلط، امتزجت فيه مصالح الدول والتيارات، بأحلام الثوار الجدد، بشهوة الإعلام الحديث وكيفية صناعة اللحظة بدل استقبالها فقط بشكل سلبي، لذلك فالحديث عن حيادية هذا الطرف أو ذاك ضرب من قصص الأطفال البريئة قبل النوم.