الدروس الأميركية!

TT

لا أدري هل ستنتهي الأزمة المصرية، وقت نشر هذا المقال، ولكن العلامات والإشارات مساء يوم السبت الخامس من فبراير (شباط) الحالي كانت أن الحالة قد تعدت أقسى لحظاتها ودخلت مرحلة التسوية. وربما يكون مبكرا أن نتأمل في التجربة كلها، فلا يزال التاريخ يصنع بأشكال جديدة؛ ومن الجائز أن يكون من حق المصريين الثورة ولو لمرة واحدة كل قرن.

ومنذ أيام نقل فريد زكريا الكاتب في مجلة «التايم» الأميركية ما كتبه فؤاد عجمي عام 1995 عن أن مصر لها سجل ملحوظ من الاستقرار السياسي، وعلى مدى قرنين من الزمان حكم مصر نظامان: الملكية التي أسسها محمد علي الكبير عام 1805؛ والجمهورية التي أسسها جمال عبد الناصر. وبالمقارنة فإن فرنسا مرت بثورة عظمى، وإمبراطوريتين، وخمس جمهوريات وشبه نظام فاشي خلال نفس المرحلة.

لقد جاء عصر ثورة مصرية إذن بعد وقت طويل، وبات على المصريين التعامل مع أوضاع جديدة معقدة ومركبة. وكما يحدث عادة فإن الأوقات الصعبة تعني أمورا كثيرة من بينها أن تأتي النصائح من كل حدب وصوب، ومن الأصدقاء والحلفاء وغيرهم. وفي الحقيقة فإن المصريين كانوا في حاجة إلى النصح سواء كانوا في الحكم أو في المعارضة، لأن في مثل هذه اللحظات تكون الحركة بين المبالغة والملاينة، التفاخر والتواضع، تحتاج إلى رؤوس عاقلة، وقلوب باردة.

طرف واحد في العلاقات الدولية كلها بدا لي أنه ليس الطرف الصحيح الذي من حقه إعطاء الدروس لمصر والمصريين وهو الولايات المتحدة الأميركية التي احتلت بلادا بأكملها من أجل إصلاحها وتدريبها على الديمقراطية الحقة، وكانت النتيجة كما نعرف في أفغانستان والعراق. صحيح ورثت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما أعباء ثقيلة خلفتها السياسة اليمينية المتشددة التي انتهجتها الإدارة الجمهورية السابقة، لكن اللافت في هذا الإطار، هو أن الإدارة الديمقراطية الحالية لم تفشل فحسب في معالجة معظم التداعيات السلبية التي أنتجتها هذه السياسات الخاطئة، وإنما راكمت عليها أخطاء جديدة في كثير من الملفات، أدت في النهاية إلى ظهور اتجاهات جديدة بدأت تتحدث عن «أفول» القوة العظمى الوحيدة الموجودة على الساحة الدولية، لصالح نظام دولي جديد متعدد الأقطاب لا سيما في ظل تطلع العديد من القوى العالمية إلى منافسة الولايات المتحدة الأميركية على الصعيد العالمي، وبروز توقعات متشائمة بشأن مستقبل الاقتصاد الأميركي، وما يمكن أن يتمخض عن المناخ السياسي السائد حاليا داخل الولايات المتحدة الذي بدأ يشهد ظواهر جديدة لم يعتدها المجتمع الأميركي.

فعلى الصعيد الخارجي، تتعدد الملفات التي ارتكبت فيها الإدارة الأميركية أخطاء بالجملة. ففي الملف العراقي، ورغم نجاح الإدارة الأميركية في خفض عدد قواتها العسكرية وإنهاء العمليات القتالية في عام 2010، فإن ذلك لم ينعكس كثيرا على تدعيم حالة الاستقرار على المستويين السياسي والأمني. فعلى المستوى السياسي ما زالت الخلافات والصراعات بين القوى السياسية العراقية التي سببت دوما شللا في إدارة شؤون الدولة سمة أساسية في المشهد السياسي العراقي، وهو ما بدا جليا في أزمة التشكيلة الحكومية التي استمرت أكثر من سبعة أشهر بعد إجراء الانتخابات التشريعية في مارس (آذار) 2010، وانتهت بالتوافق على احتفاظ نوري المالكي بمنصبه كرئيس للحكومة. وعلى المستوى الأمني ما زالت مناطق مختلفة من العراق تشهد بين الحين والآخر عمليات انتحارية تخلف عددا كبيرا من القتلى والجرحى رغم الترتيبات والاستعدادات الأمنية القائمة، والتعاون الأمني بين القوات الأميركية والسلطات العراقية.

فضلا عن ذلك ظهرت بعض المشكلات الخاصة بعمليات إعادة الإعمار. فقد عجزت وزارة الدفاع الأميركية عن توضيح كيف أنفقت 2.6 مليار دولار من الأموال المخصصة للحكومة العراقية نتيجة لوجود تراخ في عملية الرقابة وحفظ السجلات. وخلال مراجعة حسابات ما يصل إلى 9.1 مليار دولار من عائدات النفط في العراق، أشار المفتش العام الأميركي المسؤول عن أعمال إعادة الإعمار في العراق إلى أن معظم المؤسسات العسكرية الأميركية التي كلفت بصرف أموال على مشاريع إعادة الإعمار لم تلتزم بالقواعد التي وضعتها الولايات المتحدة الخاصة بكيفية متابعة هذه الأموال وإنفاقها. كما أشار التقرير الذي أعده المفتش إلى وجود تراخ من جانب بعض المسؤولين الأميركيين الذين عزفوا عن فتح حسابات مصرفية لـ8.7 مليار دولار تابعة لصندوق تنمية العراق، وذلك حسب القواعد التي تفرضها وزارة الخزانة، وهو ما أدى إلى ظهور مشكلات في عملية الرقابة وجعل الأموال عرضة لاستخدامات غير مناسبة ولخسائر غير متوقعة.

واللافت في الحالة العراقية أيضا، هو أن الإدارة الأميركية لم تنجح فحسب في معالجة الأخطاء التي ارتكبتها واشنطن إبان غزو العراق عام 2003، وأهمها قرار حل الجيش العراقي وتنفيذ عملية اجتثاث حزب البعث بشكل عشوائي، وإنما فشلت أيضا في محاصرة، أو على الأقل تحييد دور إيران في المشهد العراقي، بل على العكس، تمكنت إيران من استثمار الأخطاء الأميركية الفادحة في العراق، لتكريس نفوذها ودورها في العراق، خصوصا لجهة تمكين حلفائها من السيطرة على مقاليد السلطة.

وفي الملف الأفغاني، ورغم الجهود الحثيثة التي ما زالت تبذلها الإدارة الأميركية لحسم هذا الملف من خلال ضخ مزيد من الموارد العسكرية في الحرب الدائرة هناك، لا سيما بعد خفض القوات في العراق، ورغم إجراء مراجعة للاستراتيجية الأميركية في أفغانستان وباكستان، فإن ذلك لا ينفي أن ثمة بعض الأخطاء ارتكبتها الإدارة أدت إلى حدوث تطورات سلبية مثل التصاعد الملحوظ في دور حركة طالبان التي نجحت في السيطرة على عدد من المناطق الأفغانية خصوصا في الجنوب، وظهور خلافات بين الرئيس الأفغاني حامد كرزاي والإدارة الأميركية، وتصاعد دور ونفوذ إيران أيضا داخل أفغانستان، وتوسع نفوذ تنظيم القاعدة لا سيما في المناطق الحدودية بين باكستان وأفغانستان والمناطق القبلية. كما أثرت العمليات القتالية والسياسة الأميركية في المنطقة بالسلب على العلاقات بين الولايات المتحدة وباكستان.

المسألة إذن أن الولايات المتحدة هي آخر الدول التي يمكنها إبداء النصح لمصر، ليس فقط بسبب فشلها في مناطق محددة يمكن إضافة أمور كثيرة لها، ولكن لأن النظام الأميركي فيه من العناصر الداخلية المؤثرة على الحكم والتقدير من جانب الإدارة الأميركية ما يدفع للقول إنه نادرا ما يكون ذلك واقعا إلى جانب الحكمة حتى فيما يتعلق بحماية المصالح الأميركية نفسها. ولا يكون ذلك مرتبطا فقط بالاضطراب الذي تولده جماعات المصالح، وإنما يضاف إليها ما يسمى بمراكز التفكير التي نادرا ما تكون قادرة على تقديم النصح الصحيح للرئيس الأميركي. النتيجة كما رأينا كانت كمية من النصائح التي كانت تكفي لضياع مصر كلها!