سمعنا.. لكن هل فهمنا؟

TT

عندما اشتدت الأحداث في الشارع التونسي، خاطب زين العابدين بن علي الشعب التونسي معربا عن «ألمه» لسقوط ضحايا، ومعربا عن «أسف كبير وعميق»، قبل أن يقول عبارته الشهيرة «أنا فهمت.. أنا فهمتكم»، ثم ركب طائرته ورحل.

بقيت تلك العبارة ترن في الآذان، خصوصا بعد أن حركت انتفاضة التونسيين العالم العربي، لتصبح دعوات التغيير مدا هائلا مع مظاهرات الشباب المطالبين بالتغيير في مصر. لكن بعد مرور ما يقرب من الشهر على خطاب بن علي، وأكثر من أسبوعين على انتفاضة مصر، لا يزال هناك سؤال يقلق الكثيرين: هل ما زلنا لم نفهم؟

ففي تونس، كما في مصر، لا يزال هناك من يناورون ويحاولون إجهاض انتفاضة الشباب أو من يحاولون اختطافها وقطف ثمارها، أو حتى حرفها عن مسارها وتوجيهها إلى غير ما يريد الشباب الذين فجروها. فبعض التحركات توحي بأن هناك محاولات للالتفاف وكسب الوقت بهدف تمييع مطالب التغيير وتقديم أقل ما يمكن تقديمه في ظل سقف منخفض جدا من التنازلات يقل كثيرا عن ما هو مطلوب لإحداث تغييرات حقيقية تلبي صرخات من دفعهم اليأس لإحراق أنفسهم في الساحات العامة، وتتجاوب مع تطلعات الشباب الذي خرج متحديا القمع والرصاص. في تونس سارت عجلة التغيير ببطء شديد، بينما كان رموز نظام بن علي يحاولون الاحتفاظ بكل الخيوط، والتحكم في إيقاع الفترة الانتقالية، إلى أن تجددت المظاهرات والاشتباكات العنيفة في عدد من المدن التونسية خلال الأيام القليلة الماضية، فتحركت الحكومة هذه المرة لوقف كامل أنشطة حزب التجمع الدستوري الحاكم سابقا وإغلاق مقاره «للحفاظ على المصلحة العليا للأمة وتفادي أي انتهاك للقانون». والواقع أن خطوة الحكومة جاءت بعدما تحدثت عدة جهات عن أن مجموعات من أنصار الحزب الحاكم أو مدفوعة من قبل بعض رموزه تنظم أعمال عنف وتخريب بهدف خلق فوضى تتيح لهم الإمساك بزمام الأمور مجددا وإحباط مطالب التغيير.

في مصر أيضا برزت تحركات وأطلت وجوه هدفها اختطاف انتفاضة الشباب، والسير بها في وجهة مختلفة. جهات مختلفة تتنازع على الأضواء، وأخرى تتوزع الأدوار؛ إما بهدف جني المكاسب لنفسها، أو لتمييع مطلب التغيير، كل بحسب المكان الذي يقف فيه وينطلق منه. فهناك أنصار للنظام لا يريدون أي تغيير حفاظا على انفرادهم بالسلطة ومكاسبهم التي جنوها، وهناك من يريدون تغييرات تلبي بعض مطالب الشباب لكنها تحافظ على النظام القائم بشكل أو آخر. هناك أيضا في صفوف أحزاب وقوى المعارضة، التي لم يكن بعضها معارضا في الواقع، مناورات على قدم وساق للإمساك بزمام ثورة الشباب وقطف ثمارها ولو بتغييبهم من طاولة الحوار مع الإبقاء على وجودهم في الشارع كورقة ضغط. من الصعب فهم التضارب في موقف أحزاب المعارضة، والاضطراب في بياناتها وتصريحاتها، مثلما هو من الصعب تفسير التحول المفاجئ في خطاب بعض من كانوا حتى الأمس القريب يصطفون خلف النظام.

المذهل أنه في ظل الصورة التي يحاول البعض صبغها بالضبابية تظهر وجوه تقدم على أنها تمثل شباب ميدان التحرير، ثم نسمع من داخل الميدان من يقول إنهم لا يعرفون مع من تتحاور الحكومة. هل هناك من يعمل لتفتيت وتشتيت الشباب، بعد أن فشلت كل المحاولات لإخراجهم من الميدان سواء كان ذلك عبر الاقتحام بالبلطجية، أو برصاص القناصة؟ وهل إلى هذا الحد يصم البعض آذانه عن صوت الشارع ومطلبه في التغيير؟ وهل ستحفظ هذه المحاولات لمصر استقرارها وتعيد لها عافيتها؟

في الجانب المقابل، لا بد أن تثير تحركات أحزاب المعارضة الكثير من التساؤلات، خصوصا بعدما بدا أن هناك مراوغات ومناورات، ونوعا من التسابق والهرولة إلى طاولة الحوار بمواقف غير واضحة، وتغييبا متعمدا لبعض الأصوات والوجوه. وبسبب هذه المناورات فشلت القوى السياسية التي يفترض أنها تمثل المعارضة في تشكيل جبهة موحدة للتفاوض، تتحدث بصوت واحد وتتبنى مطالب الشباب، علما بأن تشكيل مثل هذه الجبهة هو الطريق الأمثل للخروج بنتائج واضحة وسريعة، وضمان قيادة السفينة المصرية إلى بر الأمان، وإحداث نقلة حقيقية تضمن تحقيق مطالب التغيير. إن الجميع، بما في ذلك الحكومة، يقر بأن هناك أزمة ثقة بين المتظاهرين والنظام، مثلما أن هناك إحساسا بعدم الرضا من المتظاهرين إزاء محاولات البعض اختطاف أو إجهاض انتفاضتهم. ومثل هذا الوضع لن يساعد على إنجاح الحوار، بل قد يعقده بما يمنع إيجاد الحلول في ظل جدول زمني ضاغط إذا كان للناس أن ينجزوا تعديلات الدستور، ويرتبوا للإجراءات الانتقالية، ويعدوا لانتخابات تضمن تداولا سلميا للسلطة ونقلة ديمقراطية حقيقية تستجيب لتطلعات جيل خالد سعيد ووائل غنيم الذين ضحوا وخرجوا من أجل التغيير، وأخرجوا بصوتهم الهادر الجميع من سبات عميق.

هناك في الداخل أو في الخارج من يخاف من نجاح انتفاضة الشباب في تونس وبالذات في مصر، خوفا من أن تمتد آثار هذه الأحداث وتغير المشهد في المنطقة. إلا أن هناك قراءة أخرى يجب عدم إغفالها؛ فإحباط مطالب التغيير في تونس أو مصر لن يعني بالضرورة عودة الاستقرار واستتباب الأمور، بل إن الأوضاع قد تنزلق نحو الأسوأ، خصوصا أن حواجز الخوف سقطت، وسياسات القمع فشلت حتى وإن نجحت إلى حين.