ما بعد «ميدان التحرير»!

TT

لا شك أن المتظاهرين في ميدان التحرير بالقاهرة قد أثبتوا وجهة نظرهم في ما يخص رحيل الرئيس مبارك، ولكن الذين يتابعون الحالة المصرية منذ سنوات يدركون أن رحيل الرئيس قد لا يغير من ظروف مصر شيئا، بل ربما ازدادت الأحوال المعيشية سوءا. ليس الهدف هو التقليل من أهمية ما حدث، فالاحتجاجات أجبرت الرئيس على عدم الاستمرار في الحكم، أو توريث ابنه، أو أحد من مقربيه، والسلطة تعد أيضا بإصلاحات دستورية، وقيام انتخابات نزيهة. بيد أن انتظار تحول مصر إلى بلد ديمقراطي، على الطريقة الغربية، أو تحقيق مجتمع رفاهية للطبقة الوسطى، أو تحسين الأحوال الاقتصادية لملايين الفقراء، هي تمنيات تزداد صعوبة يوما بعد يوم.

حاليا، يمكن للكثيرين أن يقولوا إن هدف الاحتجاجات الأساسي هو رفع يد القمع والاستبداد السياسي، وتمكين المصريين من اتخاذ قراراتهم بأنفسهم وبكرامة. بيد أن هؤلاء ربما ينسون في ذروة المعارضة أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والبطالة في السنوات الثلاث الأخيرة - وهما ظاهرتان عالميتان - كان لهما تأثير مباشر في توجيه الأحداث. مواقع التواصل الاجتماعي - مثل «فيسبوك»، «تويتر»، و«يوتيوب» - وفرت المساحة اللازمة للتجييش، والتخطيط، والتواصل بين المتظاهرين دون تدخل السلطات، ولكن ما حدث في مصر لم يكن - على الأقل في ما يمكن رصده الآن - ثورة «فيسبوك» أو «تويتر»، وهي لم تكن أيضا احتجاجات «ديمقراطية»، أو للمطالبة بالحرية فقط. صحيح، أن المظاهرات الأخيرة رفعت لافتات كثيرة مثل «الفقر»، و«الاستبداد»، و«العدالة»، وغيرها الكثير، ولكن تعدد اللافتات، وكذلك تنوع المشاركين آيديولوجيا وسياسيا، كان يعني شيئا واحدا، وهو «الغضب» ضد النظام القائم. ولهذا تمت تسمية أكبر تلك المظاهرات بـ«يوم الغضب». غالبية الفاعلين الرئيسيين في الاحتجاجات الأولية كانوا أبناء الطبقة الوسطى المتدنية الذين يعانون من البطالة، أو تواضع الوظيفة، على الرغم من التعليم الجامعي الذي يحملونه. هؤلاء الذين يقدر عددهم رسميا بخمسة ملايين، هم الذين استطاعوا التواصل عبر الإنترنت وتنظيم أنفسهم، وقد زاد من فرص نجاحهم وجود جو عام من الاحتقان الشعبي والنقمة على الأوضاع، وكانت أحداث تونس «القشة» التي قصمت ظهر البعير.

اليوم.. تصعب مراجعة وتقييم نظام الرئيس مبارك بشكل عقلاني ومتزن بسبب حالة الفوران الشعبي التي نشهدها، ولكن إذا جاز لنا أن نقول شيئا اليوم فإنه كان ينبغي على الرئيس مبارك أن يتنحى بطريقة مشرفة منذ زمن بعيد. لقد شهد عهده بعضا من النجاحات وأخطاء كبيرة وكثيرة، ولكن في السنوات العشر الأخيرة بالذات كانت علامات الشيخوخة والهرم بادية على رأس السلطة المصرية، ولهذا غرق البلد في جدل التوريث، وتنافست أقطاب وأجنحة داخل الحزب الوطني على الاستئثار بالمال والسلطة في محيط فقير ومتذمر، وتحولت بعض أجهزة الدولة - وأبرزها الجهات الأمنية - إلى وسائل وأدوات يستشري فيها التسلط والفساد.

على الرغم من كل ذلك، فإن تحميل عهد الرئيس مبارك وحده المسؤولية عن تردي الأحوال في مصر لن يحل الأزمة، بل إن المشكلات التي يعاني منها المجتمع المصري مرشحة لأن تزداد سوءا، قبل أن تتحسن على المدى البعيد.

في غضون شهور قليلة سيكون بوسع المصريين انتخاب رئيس جديد، وتعديل الدستور، والحصول على برلمان منتخب، ولكن حل مشكلات الدولة المصرية قد يستغرق عقودا. هناك 700 ألف مصري يدخلون سوق العمل كل عام، حيث يبلغ عدد خريجي الجامعات والمعاهد العالية 417 ألفا سنويا، فقط 18 في المائة يتخرجون في أقسام تقنية أو طبية، وفوق ذلك يتدنى تصنيف مستوى التعليم في مصر إلى 106 من أصل 131 دولة. ليس هذا فحسب، فالدولة المصرية تعتبر واحدة من أكبر الدول تضخما في أجهزتها الحكومية، أي أن الدولة ومؤسسات القطاع العام توظف أكبر مما تحتاجه، وتقوم بالإنفاق على مشاريع دعم للخدمات والاحتياجات الأساسية أكبر من قدرة اقتصادها، كي تشتري صمت الفقراء. ناهيك، عن الانفجار السكاني الذي يجعل مؤسسات الدولة المصرية عاجزة لعقود مقبلة عن إيجاد حلول للإسكان أو الصحة، أو تصحيح مستوى الفقر في البلاد.

الحكومة المصرية تعتمد على خمسة مصادر رئيسية لتحقيق النمو الاقتصادي: السياحة، عائدات النفط والغاز، قناة السويس، الاستثمار الأجنبي، حوالات العمالة المغتربة، والمساعدات الخارجية. أي حكومة مستقبلية ستكون مضطرة إلى المحافظة على ثلاثة مصادر تأثرت بالأزمة الراهنة: السياحة، الاستثمار الأجنبي، والمساعدات الخارجية. ويحذر ديفيد ماك من عدم المسارعة في التصفيق للحدث المصري، لأن تحديات التصحيح الاقتصادي والبنيوي للدولة ربما فاقت مقدرة جيل أو جيلين، خصوصا إذا ما استمرت أسعار السلع الغذائية والبطالة في الارتفاع، وأضيف إلى ذلك تراجع السياحة، وتقلص المساعدات الأجنبية، والاستثمار بوجه عام. «بوسع الإعلام الأميركي ومنظري الديمقراطية في مقاعدهم الوثيرة أن يعودوا، من ميدان التحرير، ولكن الشعب المصري لا يمكنه ذلك». («فورين بوليسي»، 3 فبراير/ شباط).

حاليا يتخوف الكثيرون من صعود الإخوان المسلمين، وهو تخوف له ما يبرره، ولكن أغلب الظن أن الإخوان لن يستطيعوا وحدهم تشكيل الحكومة المقبلة، إما لعدم قدرتهم على امتلاك الأصوات الكافية، أو تخوفا من رد الفعل الدولي، ولهذا سنشهد على الأرجح قيام حكومات ائتلافية ذات عمر قصير. توقعات المصريين اليوم أعلى وصوتهم سيكون أقوى في الانتقاد وسيملكون قوة التغيير في أي وقت، وإذا ما حدث ذلك فإن مصر ستنكفئ إلى الداخل في صراعات حزبية وسياسية قد تستمر لعقود.

كما ترى، فإن مشكلات مصر لا يمكن اختصارها في شخص الرئيس، أو الفساد في عهده، لأن الثابت، وبحسب تقارير دولية، انتشار ثقافة الفساد والرشوة، وانعدام الكفاءة، وضعف المحاسبة في كل مفاصل المجتمع. وعليه فإن الأيام المقبلة قد تحمل تحديات أكبر، لأن الاستقرار الذي عاشته مصر لثلاثة عقود - وإن لم يكن ديمقراطيا - قد حقق نموا هائلا في السياحة، والاستثمار الأجنبي. وعلى افتراض استمرار السياحة على وضعها، فإن الاستثمار الأجنبي قد لا ينمو بالقدر ذاته بسبب قلق المستثمرين من ضخامة التغييرات التي قد تشهدها مصر في نظامها التشريعي والاقتصادي في المرحلة المقبلة.

في كتابه المهم «الموجة الثالثة» (1993)، يقول صموئيل هنتنغتون: إنه «احتكاما إلى التجارب السابقة، فإن العاملين المؤثرين في استقرار وتوسع الديمقراطية هما التنمية الاقتصادية والقيادة السياسية». أي باحث يعرف الواقع السياسي المصري يدرك أن أمام تحقيق ذلك عقبات اجتماعية وتقليدية كثيرة.

لقد تمكن شباب ميدان التحرير من إيصال صوتهم للعالم، ولكن العبرة ليست بالرفض والاحتجاج، فقد جرب غيرهم ذلك في بلدان أخرى، ولكن في تحويل تلك الاحتجاجات إلى مكاسب سياسية واقتصادية.. ذلك هو النجاح الحقيقي.