مصر تدخل مرحلة جديدة بعد سقوط شرعية 23 يوليو

TT

كانت النقطة الفاصلة التي قصمت ظهر البعير في الشارع المصري هي انتخابات مجلس الشعب التي تمت قبل نهاية العام الماضي، وهي التي أدت إلى انهيار الثقة في حكومة الرئيس حسني مبارك. فقد عمل المهندس أحمد عز - أمين تنظيم الحزب الوطني - الذي كان مسؤولا عن إدارة انتخابات مجلس الشعب، على استخدام كل الطرق المشروعة وغير المشروعة حتى يفوز حزب الحكومة بالضربة القاضية، بعد استبعاد الأحزاب الأخرى من حلبة الانتخابات. فقد نال الحزب الوطني الديمقراطي 81% من المقاعد البالغ عددها 518، بزيادة 90 مقعدا على ما كان عليه في الانتخاب السابقة التي أجريت عام 2005، بينما لم يفُز المستقلون والمعينون سوى بـ19%. وهكذا ربح الحزب الوطني الانتخابات، لكنه خسر ثقة الشعب المصري. وبنزول الجماهير إلى الشارع مطالبين برحيل النظام الشمولي الذي سيطر على حكم البلاد لنحو 59 عاما، انتهت شرعية ثورة يوليو (تموز) وبدأ عصر جديد يرفض حكم الحزب الواحد ويطالب بعودة الحياة البرلمانية إلى مصر.

قبل قيام ثورة يوليو 1952 كانت الجماهير المصرية تطالب باحترام الدستور وصيانة الحياة البرلمانية، فهل حققت هذه الثورة مطالب الشعب المصري؟

لما كانت الثورات تقوم دائما من أجل تغيير المجتمع، يصبح من الضروري لنا دراسة تاريخ ثورة يوليو بشكل موضوعي لتقييم إنجازاتها والتعرف على ما حققته من مكاسب للشعب المصري، وما أخفقت في تحقيقه من مطالب شعبية. فالثورة عمل خارج على القانون، مثلها في ذلك مثل التمرد والعصيان والانقلاب. وبينما يعتبر التمرد والعصيان جريمة يعاقب عليها القانون، فإن الثورة تعتبر عملا بطوليا يكافأ من قام بها لشجاعته وبطولته؛ ذلك أن الفكر السائد في العصر الحديث يعتبر أن الشعب هو مصدر السلطات ومصدر القانون، وإذا لم يستطع الشعب تغيير القانون بسبب طغيان السلطة القائمة وقهرها، فإن له الحق في تغيير هذه السلطة بالقوة، وكذلك تغيير القانون السائد.

فالثورة عمل جماهيري تسهم فيه الغالبية العظمى من أبناء الشعب، أما التمرد والعصيان فهما أعمال فردية تقوم بها مجموعة صغيرة من الناس، أو طائفة من طوائف المجتمع. والثورة هنا تشبه الحرب، فبينما يعتبر المقاتل في الجيش بطلا يتم تكريمه عندما يقتل الأعداء في ساحة القتال، فإن هذا المقاتل نفسه يعتبر مجرما لو أنه قتل شخصا ما في الطريق، حتى ولو كان الضحية عدوا للمجتمع. فالقانون وحده هو الذي يحاسب الناس داخل المجتمع، وإذا أراد الشعب تغيير القانون، فهناك طرق دستورية تتيح له الفرصة لإحداث هذا التغيير. لكن الثورة لا تستمر إلى الأبد، بل تنتهي بمجرد تحقيق أهدافها. وعلى سبيل المثال، فإن الثورة الفرنسية - التي تعتبر أهم الثورات في العصر الحديث - التي أحدثت تحولات سياسية واجتماعية كبرى في التاريخ السياسي والثقافي لفرنسا وأوروبا بوجه عام، لم تستمر سوى 10 سنوات من 1789 إلى 1799.

قبل ثورة 1952 كانت مصر قد شهدت فترة مزدهرة للحياة البرلمانية، على الرغم من أن دستور 1923 أعطى الملك حق حل مجلس الوزراء والبرلمان، وعلى الرغم من نشوب الحرب العالمية الثانية ووجود الاستعمار البريطاني في تلك الفترة. وبعد أن ألغى جمال عبد الناصر دستور 1923، شهدت مصر عدة دساتير والكثير من التعديلات عليها، عملت كلها على حرمان الشعب من حق اختيار ممثليه بحرية وحق تكوين الأحزاب من دون اعتراض من السلطة الحاكمة.

فقد ظهرت الأحزاب السياسية في مصر منذ القرن الـ19 تعبيرا عن تفاعلات اجتماعية واقتصادية وثقافية، كما جاء نتيجة لظروف تاريخية ووطنية وسياسية معينة. وكان أول هذه الأحزاب هو الحزب الوطني الديمقراطي الذي ظهر عام 1907 وأسسه الزعيم مصطفى كامل، ثم ظهر حزب الوفد في أعقاب الحرب العالمية الأولى كحركة شعبية في بادئ الأمر تهدف إلى تأييد سعد زغلول وزملائه في تمثيل الشعب المصري للتفاوض مع الإنجليز من أجل تحقيق الجلاء. وبعد تصريح 28 فبراير (شباط) 1922 الذي اعترفت فيه بريطانيا باستقلال مصر ثم صدور دستور 1923، الذي أقام نظام حكم ملكي دستوري على أساس من تعدد الأحزاب ومبادئ الديمقراطية الليبرالية، شهدت مصر تجربة ثرية في الممارسة السياسية والديمقراطية استمرت حتى 1952. في تلك الفترة، تكونت الكثير من الأحزاب الصغيرة التي جاء معظمها على شكل انشقاقات عن أحزاب رئيسية، ومن هذه الأحزاب: الحزب الدستوري والحزب الوطني الحر والحزب المصري، كما كانت هناك أحزاب الكتلة السعدية والأحرار الدستوريين وغيرها من الأحزاب المنشقة عن حزب الوفد.

تغير الوضع تماما بعد قيام ثورة يوليو 1952؛ حيث اتجه النظام الجديد إلى توطيد أركانه عن طريق القضاء على المعارضة. وفي 16 يناير (كانون الثاني) 1953 صدر قانون حل الأحزاب السياسية واتجه النظام إلى التنظيم السياسي الواحد، الذي يحكم البلاد باسم هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي الذي تغير بعد ذلك إلى الاتحاد الاشتراكي. وعلى الرغم من السماح بالتعددية الحزبية منذ 1977، فإن التنظيم الذي شكله الرئيس السادات باسم الحزب الوطني الديمقراطي ظل رقيبا على من يسمح له بتشكيل الأحزاب، كما اعتبر نفسه الحزب الوحيد الذي يحق له حكم البلاد، رافضا فكرة انتقال السلطة الذي يقوم عليه النظام الديمقراطي.

من الواضح أن الشعب المصري الآن لم يعد يقبل أن يُحكم حكما شموليا ولا أن ينفرد الحزب الوطني بالسيطرة على حكم البلاد. وعلى الرغم من أن الرئيس مبارك يستحق الشكر على رفضه لسياسة المغامرات التي اتبعها الرئيس جمال عبد الناصر من قبل، فإن مشكلات مصر الآن تحتاج مشاركة جميع أبناء الوطن للمساهمة في حلها. الجميع يثقون في قدرة اللواء عمر سليمان على قيادة مصر في مرحلة انتقالية لتعديل الدستور وإجراء انتخابات حرة للوصول إلى حكومة تمثل الشعب المصري، وعلى الجيش أن يحمي انتقال السلطة إلى ممثلي الشعب دون التدخل في العمل السياسي.