أوامر وماكو أوامر

TT

بين كل المشاهد التي هزتني وحملتها الفضائيات من مصر، مشهد الجنود الذين أمروا بفرض منع التجول وهم يتلقون الورود من الجمهور ويزينون بها بدلتهم العسكرية. ذكرني المشهد حالا بما جرى في طهران عام 1979. كان الملحق العسكري الأميركي يتجول في الشارع يراقب ما يجري. رأى امرأة تحمل وردة وتعطيها لأحد الجنود. أخذها منها ووضعها في فوهة بندقيته. رأى الضابط الأميركي ذلك فقال: لقد انتهى الشاه!

درس رائع من دروس فاعلية الجهاد المدني. «اللاعنف». قلت لنفسي، أيمكن أن أستنتج من ذلك ومما رأيت من ثورة الورد في القاهرة أن شيئا مشابها سيحصل في مصر؟ ولكن تلا ذلك مشهد آخر هزني. مشهد المتظاهرين وهم يحملون على أكتافهم أحد ضباط الجيش المصري. كان يبتسم ورفع يده ليشير بأصبعه إلى الأمام وكأنه يقول للجميع، إلى الأمام يا مصر! إن على النظام الجديد أن يفتش عن هذا الضابط ليكرمه بأعلى وسام في مصر، وسام جديد باسم «وسام السلام».

ما جرى في مصر وتونس فتح فصلا جديدا في تاريخنا. الفكرة العسكرية التقليدية هي أن الجندي يطيع ولا يناقش. الأوامر هي كل شيء. فعندما ناشد الفلسطينيون في 1948 الجيش العراقي التدخل لدعم مقاتلين فلسطينيين محاصرين، رفض القائد طلبهم قائلا:« ماكو أوامر!» وشاعت الكلمة في تاريخنا المعاصر.

بيد أن الأوامر صدرت للجنود الألمان في جبهة الفلاندرز بالهجوم، فعصوا إطاعتها. رموا ببنادقهم إلى الأرض، وصاحوا: «كفاية! كفاية موت!» وبتمردهم على الأوامر وضعوا نهاية للحرب العظمى وفتحوا فصلا جديدا في التاريخ العسكري. تعترف الدول الغربية الآن بحق المواطن في رفض حمل السلاح أو إطلاق الرصاص على أحد إذا أثبت أن ضميره يملي عليه ذلك. إنهم فصيلة الرافضين الضميريين (conscientious objectors). يسمونهم في إسرائيل بالرفيوزنيك، وهم الشباب الذين يرفضون حمل السلاح ضد الفلسطينيين.

بهذا التحول، انهارت الفكرة التقليدية بأن الجندي يطيع الأوامر. لم يعد القضاء يقبل هذه الحجة في الدفاع عمن يرتكبون جرائم ضد الإنسانية، كإطلاق الرصاص على متظاهرين مسالمين. هكذا رفض قضاة نورنبورغ وسواها من المحاكم الدولية حجة الضباط النازيين الذين ادعوا أنهم إنما كانوا يطيعون الأوامر كعسكر. وكذا جرى الأمر في العراق في محاكمة من تسببوا في قتل ضحايا صدام حسين. فالحقيقة أن قادة الجيش في تونس ومصر احترموا هذا المبدأ الجديد في رفضهم أي أوامر تصدر إليهم بضرب المتظاهرين المسالمين. أصبح على المسؤولين العرب اليوم أن يراعوا هذا الوضع الجديد فلا يعولوا على الجيش في حماية مراكزهم. مهمة الجيش الدفاع عن الوطن وليس الدفاع عن المناصب.

ولكنني أرثي للجيل الجديد من الضباط. فمن أين لهم أن يميزوا بين أمر وأمر؟ كيف يحزر أن هؤلاء بلطجية يعيثون في الأرض يجب قمعهم وهؤلاء متظاهرون ينشدون الخير لبلدهم؟ أعتقد أن الوقت قد حان لإضافة درس جديد في الكليات الحربية. مثلما يدرسون كبريات المعارك الحربية التي جرت من أجل الفتح والعدوان، يدرسون المعارك السلمية التي جرت من أجل حقوق الإنسان وتحرره.