خسر الأميركيون أصدقاءهم.. لكنهم لم يكسبوا أعداءهم!

TT

لم يبق على باراك أوباما، في لحظة من اللحظات التي انفجرت فيها العواطف الدهمائية الجياشة حتى فقدان التوازن والتصرف بعقلية القطيع وليس بحسابات رؤساء الدول الكبرى، سوى أن يلملم أشياءه ويستقل الطائرة الرئاسية على جناح السرعة ويأتي إلى القاهرة لينضم إلى «ثوار» ميدان التحرير ويبادر إلى رفع قبضة محمد البرادعي عاليا وهو يهتف مخاطبا الرئيس مبارك عن بعد وعبر شاشات الفضائيات المتحيزة التي كانت تعاني من البطالة المهنية وتنتظر حدثا كهذا الحدث: «ارحل ارحل يا سفاح.. عهد الظالم ولّى وراح».

ما كان على الإدارة الأميركية أن تصاب بكل هذا الارتباك بمجرد أن داهمتها انتفاضة الشباب المصريين، والمفترض بدولة أعظم وتتمسك بواقع أنها لا تزال «القطب الأوحد» في العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال المعسكر الاشتراكي ولها كل هذا الانتشار الضافي في العالم وفي الشرق الأوسط، أن تكون لها معرفة بنبض الشارع المصري، وأن تكون متابعة للتوجهات السياسية في دولة هي الأهم في هذه المنطقة وهي الركيزة في هذا الإقليم الذي للولايات المتحدة فيه مصالح حيوية واستراتيجية كثيرة.

لكن لأنه ثبت هذه المرة أيضا، كما في مرات سابقة، أن هذه الدولة «الأعظم»، التي لا تغيب عن مصالحها الشمس والتي يفرض عليها انتشارها العسكري في هذه المنطقة أن لا تغيب عنها لا شاردة ولا واردة في الكون كله، هي آخر من يعلم، فإن مفاجأتها بانتفاضة شباب مصر الذين كان «فيس بوك» هو قيادتهم التنظيمية والتعبوية للتحضير لهذه الانتفاضة، قد أوقعتها في ارتباك محزن، حيث تناقض الرئيس باراك أوباما حتى مع مبعوثه الخاص الذي أرسله على جناح السرعة كهدهد سليمان كي يأتي له بالخبر اليقين عما يجري في بلاد الفراعنة والأهرامات والحضارة التي عمرها آلاف السنين، حيث شعر كل من سمع تصريحاته وتصريحات نائبه جوزيف بايدن ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، كأن قيادة عمليات «ميدان التحرير» في البيت الأبيض، وليست في هذا الميدان نفسه.

كان على دولة بهذا الحجم أن لا ترتبك كل هذا الارتباك، وكان على رئيس هذه الدولة أن لا يفقد أعصابه وأن لا يأخذ في الهتاف وراء الدكتور البرادعي، الذي غاب عن مصر أعواما طويلة فعاد من «فيينا» بسرعة حالما بأن يكون «خميني» هذه «الثورة المصرية»: «على مبارك أن يرحل الآن.. الآن وليس غدا». وكل هذا بينما كان المفترض أن يتروى باراك أوباما وأن لا يعلن عن أي موقف إلا بعد دراسته دراسة تأخذ كل أبعاد هذا الطارئ المستجد وأن يدرك أن مبارك ليس زين العابدين بن علي وأنه أحد أبطال، بل في طليعة أبطال مصر، لثلاثة حروب طاحنة مع إسرائيل، وأنه أيضا رجل قاسي المكسر، وأنه إذا كان هناك مئات الألوف من الشباب ضده ويطالبون برحيله، فإن هناك ثمانين مليونا من أبناء شعبه يرون أن بقاءه حتى نهاية ولاية عهده ضرورة وطنية وضمانا لعدم انسياق وطنهم إلى الكارثة والانهيار فتصبح أبوابه مشرعة حتى لمرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي ولتلميذه «النجيب» حسن نصر الله.

لو أن الرئيس الأميركي تصرف إزاء هذا الطارئ المباغت بحجم الولايات المتحدة ومكانتها في العالم وبمستوى مصالحها في الشرق الأوسط، لكان عليه أن لا يفقد توازنه وأن لا يتسرع ليذكي بتسرعه نيران أحداث انحرفت في لحظة من اللحظات عن مسارها، حتى غدت تهدد بالتحول إلى انهيار وفوضى عارمة، ما دام أنه لم يتأكد من أن هناك ما يهدد بلده ومصالحها في مصر وفي هذه المنطقة، على اعتبار أن «المحروسة» هي بوابة هذه المنطقة رغم أنوف الذين ظنوا أنهم بتحالفهم «المزنْدق» مع إيران وبشعاراتهم التي لم تعد تنطلي على أي كان، أخذوا مكانتها وأنهم قد صادروا دورها الذي كان مقررا ورئيسيا والذي سيبقى مقررا ورئيسيا؛ فهي «أم الدنيا» وشعبها العظيم لا يمكن أن يقبل بغير هذا.

ما دام أن البرادعي، الذي ذكَّر الكثيرين بمجيئه من «فيينا» إلى مصر على جناح السرعة بمجيء أحمد الجلبي من المهاجر البعيدة ومرافقته الدبابات الأميركية عندما دخلت العراق، كان مبعوث الإدارة الأميركية، فلقد كان على الرئيس باراك أوباما، بدل هذا الارتباك وبدل إصدار البيانات اليومية التي بقي يصدرها والتي لا تليق بالدولة الأعظم والأكبر التي لها كل هذه المصالح في مصر وفي الشرق الأوسط، أن يستمع إلى هتافات مبعوثه وهتافات المنتفضين في ميدان التحرير وأن يقرأ كل «اللافتات» المرفوعة وأن يدقق في كل الشعارات التي كان يطلقها الشباب المصريون وهي شعارات كلها كانت مركزة، ولا تزال، على الشؤون المصرية الداخلية.

لم يصدر حتى ولو هتاف واحد لا ضد الولايات المتحدة ولا ضد أي من حلفائها الرئيسيين الأساسيين وفي مقدمتهم إسرائيل، ولم يحرَق أي علم أميركي أو إسرائيلي أو بريطاني أو فرنسي في ميدان التحرير، ولم يرفع «المنتفضون» لا صورة علي خامنئي ولا حسن نصر الله، وبالطبع ولا صورة الخميني، ولا حتى صورة كيم جونغ إيل الكوري الشمالي، ولم تكن هناك للرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلا صورة واحدة كانت مركونة في زاوية بعيدة عن الأضواء، وكذلك الأمر بالنسبة للثائر الأممي تْشي غيفارا الذي قتلته المخابرات الأميركية في بوليفيا عام 1967 التي كان قد انتقل إليها بعد أن كان أحد قادة الثورة الكوبية التي أسقطت نظام «باتيستا» المعيب، التي غدت كوبا بعد انتصارها شوكة في خاصرة أميركا منذ عام 1959 وحتى الآن.

إذن ما الذي أخاف الرئيس باراك أوباما الذي هتف له هؤلاء الشباب حتى بحت حناجرهم وصفقوا له حتى أدميت أكفهم عندما جاء إلى القاهرة في بداية عهده «الميمون» وألقى في مدرج جامعتها تلك الخطبة الشهيرة التي جعلت العرب يحلقون بأحلامهم مع مساء ذلك اليوم المشهود حتى عنان السماء ثم وجدوا أنفسهم بعد فترة على الأرض عندما تراجع عن كل ما قاله ووعد به وأثبت أنه مثله مثل جميع الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه: «أسد على العرب ونعامة، بل أرنب، أمام الإسرائيليين»؟

هناك وجهة نظر تقول، ربما لم يسمعها أوباما، وهو بالتأكيد لم يسمعها ما دام أن حدثا كبيرا كهذا الحدث المصري قد فاجأه وفاجأ مخابراته فأصيب بكل هذا الارتباك الذي لا يليق إطلاقا بدولة عظمى تهيئ نفسها للتناطح مع إيران ومع الصين وحتى مع روسيا والبرازيل: إن الرئيس الأميركي الذي يسعى الآن لتحسين مواقفه الانتخابية استعدادا لانتخابه لولاية ثانية، أراد أن يظهر للناخبين الأميركيين أنه بطل إدخال الإصلاح والديمقراطية إلى الشرق الأوسط العربي بلا دبابات ولا حروب وبلا إهراق ولا قطرة دماء أميركية واحدة، وأنه خلافا لجورج بوش (الابن) قد حقق كل هذا الإنجاز بالاعتماد على الشباب من أهل البلاد، ولم يقحم أميركا في حروب؛ لا كالحرب العراقية، ولا كالحرب الأفغانية التي اقتربت من أن تنتهي بهزيمة للأميركيين كهزيمتهم التاريخية الشنعاء في فيتنام.

ربما أن الرئيس الأميركي، رغم أن اسم والده حسين ورغم أن المفترض أنه يعرف الكثير عن مصر وتاريخها وطبيعة شعبها الذي هو من أكثر شعوب العالم اعتدادا بنفسه وببلده وبحضارته، ما كان يتوقع أن تؤدي بياناته وتصريحاته «الشعبوية التحريضية والتهييجية» إلى ردود فعل معاكسة، وأنه ما كان يدرك أنه من خلال هذه التصريحات والبيانات المتسرعة بدل أن يكسب هذا البلد وأهله، كسب غضبهم وكسب رفضهم والرد عليه بأنهم لا يسمحون بأي تدخل خارجي في شؤونهم الداخلية، وأنهم لا يسمحون لأي كان من الخارج بتوجيه إهانة لرئيسهم حتى وإن كانت هذه الإهانة بالتلميح وغير مباشرة. ولهذا، وفي ضوء هذه الحقائق كلها، فإنه لا بد من القول للأميركيين ما كان قاله عبد الرحمن الداخل عندما سئل عن أسباب زوال دولة بني أمية: «لقد تخليتم عن أصدقائكم فخسرتموهم، وحاولتم تملق أعدائكم فلم تكسبوهم». وبالطبع، فإن على رأس قائمة هؤلاء الأعداء «الإخوان المسلمون» وكل الذين علاقاتهم مع إيران قوية ومتينة!!