في العالم العربي أشياء تتحرك ولكن العمى في القلوب

TT

يشاهد المرء عبر قنوات الاتصال المختلفة (إن يكن التلفزيون أهمها فإنه ليس مع ذلك السبيل الوحيد في تلقي الأخبار المباشرة) شعارات عديدة ترتفع في ميدان التحرير في القاهرة. شعارات تتقارب في عباراتها القليلة والواضحة وتتشابه في مضامينها التي لا تحتمل لبسا ولا ترددا. رسائل لا تكتفي باستخدام اللغة العربية وحدها بل إنها تتوسل بلغات أخرى حتى تكون خطابا للعالم أجمع. يبدو لي أن أعلى تلك الشعارات صوتا وأكثرها حضورا، في اللافتات التي ترتفع وفي الحناجر التي تصرخ، هو شعار: «الشعب يريد إسقاط النظام». ولا نزال، منذ ما يقرب الأسبوعين، نشاهد ونسمع الشعار المذكور يتكرر مثل لازمة في معزوفة جماعية لا تكاد تتوقف. إن هذا الشعار، والإصرار الذي يلازمه، يحملنا حملا على طرح السؤال التالي: ما النظام الذي يريد الشعب إسقاطه؟

قد يبدو السؤال ساذجا للوهلة الأولى، ذلك أن الجواب الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو أن المقصود بالنظام هو حكم الرئيس حسني مبارك. النظام إذن هو جملة العلاقات والتنظيمات التي ارتبطت بشخص الرئيس المصري طيلة عقود ثلاثة، تنظيمات قد يكون أكثرها دلالة على النظام هو الحزب الوطني، الحزب الوحيد عمليا من حيث الحضور في المجلسين التشريعيين حضورا يقارب 90 في المائة. لكن الحق أن النظام القائم في مصر يجد قواعده الأولى الصلبة في حدث 23 يوليو 1952 من حيث مظاهر كثيرة أهمها اعتماد نوع من المقايضة بين الحرية السياسية واعتماد التعددية الفعلية (لا الاسمية) وبين جملة آمال كبيرة متغيرة: محاربة الاستعمار، مقاومة الرجعية، الوحدة العربية، الاشتراكية وقد تمتد اللائحة أطول من ذلك. جملة ثنائيات قطعية: إما كذا أو كذا. إما النظام القائم (الحزب الوحيد، الصلة العضوية بين الحزب والنقابة والحزب من جهة وبينهما وبين الدولة من جهة أخرى) وبالتالي اعتماد نظام اشتراكية شعبية ما وإما الارتماء في أحضان الإمبريالية والرأسمالية وأذنابها. تغيرت الصورة، ولا شك في ذلك، بين أيام جمال عبد الناصر وأنور السادات ثم حسني مبارك، ولكن «النظام» من وجوه كثيرة، كان في العمق واحدا. كان كذلك من حيث اعتماد «الثنائية» (إما كذا أو كذا) ثنائية طرفها الأول الأمل وطرفها الثاني الخوف. تغيرت الصورة واختلفت بتغير المعطيات محليا وجهويا (هزيمة يونيو 1967، نصر 1973، اغتيال السادات وظهور حركات الإرهاب). وعالميا (سقوط جدار برلين وانهيار نظام القطبية الثنائية، التطور الكيفي في القضية الفلسطينية، حادثة 11 سبتمبر البغيضة..). والسؤال هو: هل ظل النظام في جمهورية مصر العربية واحدا منذ ثورة الجيش في يوليو 1952، فلم يكن التبدل سوى ظاهري وجزئي، أم أنه عرف تحولا كيفيا؟

سألت صديقا مصريا، أستاذا جامعيا وكاتبا مرموقا من كتاب الرأي في الصحافة العربية وشاهدا على ما يحدث منفعلا به، فجاء في صوته في التليفون ضاحكا في نبرة أسى عميق: «ما دي المشكلة!». آخرون غيره قالوا، فيما قرأت في بعض الصحف العربية الكبرى، إن الشباب المصري يعرف بكل تأكيد ما لا يريد غير أنه، بالمقابل، لا يعرف ماذا يريد. تابعت، ولا أزال أتابع يوميا، صدى ما «ما يحدث في مصر الآن» (حتى أستعير عنوانا لرواية مصرية شهيرة) في المجلات الفرنسية الأكثر تداولا وكذا في البرامج الحوارية في القنوات الفرنسية الكبرى (2، 3، 5) فلمست إجماع المتحاورين، مع اختلاف الرؤى التي يصدرون عنها، على أمور ثلاثة. الأمر الأول هو أن من قبيل المغالطة أو العمى السياسي (أو هما معا) أن يعزو المرء ما يحدث في مصر (وقبلها بوقت قليل جدا) إلى قوة أجنبية. كما أن من قبيل المغالطة والعمى السياسي أن تمتد أصابع الاتهام إلى الغلو الديني وإلى حركات الاحتجاج الديني. فالساحة لم تكشف عن شعارات «إسلامية» وحركة الشباب تعلو - وهذا واضح - على كل أشكال التنظيم السياسي، فهذه الأخيرة تبدو بجانب تلك الحركة «ضعيفة»، «أقلية»، وخشية حركة الشباب أن تسعى التنظيمات السياسية إلى قطف الثمرة واغتنام الفرصة. والأمر الثاني هو أن ما يحدث الآن في مصر وتونس معا شيء ينذر بحركية مرتقبة في البلدان العربية التي لا تزال تعيش نظام الحزب الواحد (وربما تلك التي تسعى إلى تسويد حزب واحد) والرئيس الذي تتجدد ولايته دوما قبل أن تصبح حكما مدى الحياة، مع تأهب لتوريث الحكم لابن خلف أو شروع عملي في ذلك بموجب مسطرة «دستورية» تقصي كل قوة سياسية أخرى. وأما الأمر الثالث، في أعين المحللين والملاحظين الغربيين (والفرنسيون صورة منهم)، فهو أن ما حدث في «سيدي بوزيد» في الجنوب التونسي هو بمثابة شرارة لا تزال تفعل فعلها الخفي عن الأعين اللاهية وحدها ذلك أن التربة صالحة والمناخ ملائم لإحداث مثيلات لها في مناطق أخرى من العالم العربي.

يعمد آخرون إلى مماثلة ما يجري الآن في مصر وتونس (وما يتهدد غيرها) بما وقع في المعسكر الشرقي ليلة انهيار جدار برلين وغداة تفكك الاتحاد السوفياتي القديم. وجه المماثلة يقوم بين «المنظومة الشرقية» وبين «النظام» في مناطق من المشرق العربي. بين «شباب الألفية الثالثة»، وأولئك الذين كانوا شبابا قبل أربعين سنة على الأقل. منظومتان اثنتان، لكل قيمها وموجهاتها، وعالمان اثنان لكل آماله ولغته. الشباب في «ميدان التحرير» (وهو نقطة التقاء رمزي وشهادة على عالم يتحرك) تعبير عن الجدة والجديد. تلك هي الخلاصات التي ينتهي إليها العديدون - والحق أنها، في جوهرها وفي معظمها، معطيات حقيقية لا وهمية، خلاصات تنم عن دقة في الملاحظة وقدرة على إعمال أدوات التحليل العلمي لواقع هو في حال غليان وتحول مستمر.

الحق أن ما يحدث في تونس وفي مصر حاليا يؤشر على وجود حركية ما في مختلف أرجاء العالم العربي حركية يشي بوجودها هذا الانكباب، طيلة اليوم والليلة، على شاشات التلفزيون وشاشات الحواسيب في حال من الإشفاق والتوقع، فكأن الناس يقرأون فيما يشاهدون واقعا مرتقبا فهم يضعون الأيادي فوق القلوب. هناك نذر، قوية، تظهر في سماء اليمن والأردن وأخبار خافتة من مناطق غيرها حيث يجأر القوم بالشكوى ويتوقون إلى «التغيير». هنالك، بالتالي، «أشياء تتحرك»، قد لا تتبينها العين بالقدر الكافي من الجلاء غير أن النفوس تستشعرها، لا تتبينها الأعين لِرمَد فيها أو لخلل في وظيفة الإبصار.

لكن الأدهى والأمر أن يكون العمى لا في العيون بل في القلوب التي في الصدور. عمى القلوب يصحبه، ضرورة ومنطقا، الصمم في الآذان وانعدام الإحساس في الجلد والأطراف. وقانا الله وإياكم شرور عمى القلوب مع سلامة بصر العيون.