هل أخطأ جابر عصفور؟

TT

بداية اسمحوا لي: لا أحب المزايدات ولا المزايدين. لقد مللنا من هذه اللغة السقيمة العقيمة التي سيطرت علينا منذ أن كانت الأيديولوجيات الغوغائية قد طغت على عالمنا العربي. كنا نعتقد أننا سئمناها وتجاوزناها ولكن يبدو أن الأمر ليس كذلك. ألا يوجد مثقف واحد مسؤول في هذه الأمة؟ ألا يوجد مثقف واحد يعرف معنى الهم والغم؟ كيف يمكن أن نهاجم جابر عصفور في مثل هذه الظروف العصيبة بالذات؟ ضعوا أنفسكم مكانه ولو للحظة واحدة وبعدئذ حاسبوه أو حاكموه! أليس جبنا منه وقلة شهامة وأكاد أقول انتهازية أن ينسحب في وقت الإعصار بالذات وينجو بجلده؟ لم يختر الحل السهل ولا الديماغوجي. ثم ألم يكن وزيرا للثقافة حتى من دون وزارة؟ طيلة ربع قرن وهو يحمل على كتفيه هم الثقافة العربية كاتبا وناقدا ومفكرا تنويريا حقيقيا. لقد كان رئيسا للمجلس الأعلى للثقافة المصرية وبالتالي العربية بشكل ما. وهو الذي أسس المركز القومي للترجمة وفتح الثقافة العربية على زوايا العالم الأربع. أكثر من ألف كتاب تترجم في ظرف عشر سنوات. والحبل على الجرار..

ليس لي أي مصلحة شخصية في الدفاع عن جابر عصفور. ولا أعتقد أنه بحاجة إلى دفاعي أصلا. ولكن أجد من الظلم تشويه سمعة أحد كبار المثقفين العرب اليوم. لا أستطيع القول بأني أعرف جابر عصفور عن كثب، وإن كنت قد التقيت به كمئات المثقفين العرب على هامش مؤتمرات الترجمة الكبرى التي كان ينظمها في القاهرة. وفي كل مرة كنت ألاحظ حجم الحرية المتوافرة. لقد كان كبيرا والجو مثقفا، رائعا على ضفاف النيل. كل مثقفي العرب من مغربهم إلى مشرقهم كانوا يتلاقون ويتناقشون ويتعارفون.. كنا نداوم صباح مساء في مقر المجلس الأعلى الذي كان يغص بالمداخلات والمناقشات الحرة إلى أقصى الحدود. في بعض الأحيان لم نكن نعرف في أي قاعة نحضر من كثرة المداخلات وأهميتها وتنوعها. وبالتالي فرجل كهذا لا يمكن أن يكون ضد حرية شعبه. على العكس، إنه يؤسس لها. هذه ليست أخلاقا قمعية: هذه أخلاق ديمقراطية. والديمقراطية تؤسس ثقافيا قبل أن تترجم سياسيا على أرض الواقع. ولكن إذا كانت معرفتي الشخصية به ضعيفة إلا أني قرأته مطولا في خلواتي وفي كل مرة بمتعة حقيقية. وكنت أحس فيما وراء الحروف والكلمات وجود شخصية إنسانية من أرفع المستويات.

ينبغي ألا نخطئ في قراءة الحدث المصري الكبير الجاري حاليا. هذا الانفجار كله خير وبركة بشرط أن يعرف كيف يصل إلى نتيجة إيجابية مثمرة. من السهل أن تدمر ولكن من أصعب الصعب أن تعمر. من السهل أن تبدأ الثورات ولكن ليس من السهل أن تختمها بسلام.. كلنا يعرف ماذا حصل للثورة الفرنسية وكيف أنها حرقت الأخضر واليابس قبل أن يظهر الجنرال بونابرت ويقوم بانقلاب عسكري ويضع حدا للفوضى الثورية العارمة التي أنهكت البلاد والعباد. كلنا يعرف أن هيغل تحمس لها في البداية ثم خفت حماسته بعد دخولها في مرحلة الرعب الثوري والتكسير والتدمير. مصر التي يتآخى فيها شعبها الثائر مع جيشها سوف تعرف كيف تخرج من هذه المحنة. وسوف تخرج إن شاء الله أكثر قوة وتجددا وشبابا. وذلك لأن الأزمة التي لا تقتلني تقويني. وإذا ما نجحت في عملية الانتقال السلمي للسلطة، ويبدو أنها في طريقها لتحقيق ذلك، فإنها سوف تقدم النموذج والقدوة للعالم العربي كله. لا نخترع شيئا جديدا إذا قلنا بأن العرب كلهم يقلدون مصر. منذ مائتي سنة وهي رائدة النهضة والتنوير في الفكر النقدي والرواية والمسرح والسينما والسياسة وكل شيء. وهذا لا يعني تبخيسا لعطاء الدول العربية الأخرى أو استهانة به أبدا. ولكنها الحقيقة. وبالتالي فكل ما يحصل فيها يتحول إلى نموذج بارديغمائي أعلى يعمم عاجلا أو آجلا على بقية العرب.

مشكلة مصر وكل الدول العربية هي التالية: كيف يمكن المصالحة بين الشق العلماني والشق الإسلامي فيها. كم شغل هذا الأمر نجيب محفوظ في رواياته العبقرية؟ ولهذا السبب كان يفتخر علينا أردوغان وبنوع من العنجهية في خطابه الأخير أمام البرلمان التركي. فهو يقول لنا ما معناه: انظروا كيف نجحنا في تركيا في تحقيق المعادلة المستحيلة: مصالحة الأمة مع ذاتها بكل مكوناتها وأطيافها ومن خلال الانتخابات الحرة لا المزورة. أكبر خطأ ارتكب في مصر مؤخرا هو تزوير الانتخابات لمصلحة فئة واحدة: أي الحزب الحاكم. ما كان ينبغي أن يحصل ذلك أبدا. النظام تزداد شرعيته بوجود المعارضة لا بغيابها أو تغييبها. وحتما أحد أسباب انفجار الشعب بالغضب يعود إلى ذلك بالإضافة إلى البطالة والفقر المدقع بالطبع وانسداد الآفاق. أربعون في المائة من سكان العالم العربي وليس فقط مصر يعيشون تحت خط الفقر. أضف إلى ذلك البطالة التي تصيب شرائح واسعة من السكان وبخاصة الشباب. أضف إلى ذلك التزايد السكاني الهائل الذي لا يستطيع أحد أن يستوعبه. مصر سوف تنفجر، كنا نخشى ذلك ونتوقعه منذ زمن طويل. وبهذه المناسبة ينبغي على العرب الأغنياء أن يقدموا مساعدات عاجلة إلى مصر إذا ما أرادوا أن تنتهي الأمور على خير وإلا تفلت عن حد السيطرة نهائيا. ليس للعرب أي مصلحة في انهيار مصر. إنها العمود الفقري للأمة العربية. أضف إلى ذلك الفساد وحكم العائلة والحاشية والبطانات. بطر في الأقلية (واحد في المائة) وجوع في الأكثرية الساحقة. فكيف يمكن ألا ينفجر المجتمع؟ لا تنمية اقتصادية نجحت ولا دمقرطة سياسية حصلت. لهذا السبب يتأستذ علينا السيد أردوغان ومعه الحق. لم يعد الغرب هو وحده الذي يعطينا دروسا في الديمقراطية والحرية وإنما واحد من أبناء منطقتنا وعقيدتنا. بالمناسبة يخطئ من يظن أن كلام أردوغان أو تقريعه الحاد موجه فقط إلى مصر.. ولكن فات الرئيس أردوغان شيء واحد: هو أن الحركة الإسلامية التركية تخلت عن النهج الإخواني التقليدي الرجعي وتبنت معظم توجهات الحداثة القانونية والدستورية. فالقوانين التركية في ظلها أصبحت مدنية ومتوافقة مع معظم مبادئ الفلسفة السياسية الحديثة وحقوق الإنسان والمواطن. وهذا ما لا تزال الحركات الإخوانية العربية تتهيب الإقدام عليه ما عدا الحركة التونسية التي أعلنت مؤخرا بعد ثورة الياسمين انتماءها الصريح إلى النموذج التركي وتطليق العنف اللاهوتي الإرهابي نهائيا.وهذا شيء يبشر بالخير.