الحق في المعرفة

TT

لعل الرابح الأكبر في الأحداث العربية الحاصلة الآن عموما والحادث المصري الكبير تحديدا، هو حرية الكلمة وانعكاس ذلك على مناخ إعلامي جديد يحترم الحقيقة ويقدر المتلقي ويضع حدا فاصلا بين النفاق والحق آن أوانه من زمن طويل.

مصر بلد له تاريخ إعلامي عريق ومهم، فيه أقدم جريدة في العالم العربي «الأهرام» ومؤسسات صحافية كانت حرة وجريئة ومستقلة مثل «المصري» و«روز اليوسف» و«دار الهلال» جميعها كتمها انقلاب 1952 بقوة وجبروت وسلطة وتهديد بالسجن والسلاح لتظهر أصوات مضللة وغير منطقية مثل بوق النظام الدكتاتوري وموجد المبررات له في كل كارثة، وهو الذي سمى كارثة الانهزام المهين في 1967 «النكسة» بعد أن كان يضلل العالم في الساعات الأولى بأن مصر على مشارف نصر كاسح ضد إسرائيل وأنها ألحقت بها خسائر تاريخية، وهو الذي كرس مسمى «الزعيم الخالد» على جمال عبد الناصر ليركز على فكرة بقاء الرئيس في الحكم حتى النهاية وهو ما كان. وطبعا كان يساعده في ذلك صوت إعلامي مدوٍّ في جميع الدول العربية بلا استثناء ببيعه الوهم من خلال إذاعة «صوت العرب» التي كانت وسيلة للتفرقة بين الناس وشعوب الأمم.

التلفزيون المصري نفسه يشهد هذه الأيام انقلابا مهولا في محتواه وأسلوب تعاطيه مع الأحداث في بلاده، وتحررا من «عبء» المفردة المحرجة، فالشغب أصبح «ثورة» والمشاغبون أصبحوا «الأبطال الشباب» والقتلى أصبحوا ضحايا، وبات اليوم سقف المشاركة والسماح بالتلفزيون المصري يصل إلى مستويات لم يكن أكثر المتفائلين يحلم بها ولا يتوقعها، وهاهي «الأهرام» العريقة تغير من لغتها وتتفاعل مع الحدث بشكل مدهش وتتعرض لـ«أسماء» لم يكن من الممكن التعرض لها ولا حتى في مناسبات العزاء أو الزواج!

الإعلام الرسمي في مصر (مثله مثل الدول العربية الأخرى) لم «يفهم» جيدا الانفتاح وسقف الحريات اللذين تولدا جرَّاء الثورة المعلوماتية، وبالتالي أوجد تعدد الخيارات والوسائط أمام المتلقي بشكل غير مسبوق وفُتحت المجالات أمام الإعلام الخاص الذي أبلى بلاء جيدا واستطاع أن يسحب بساط المشاهدين من الأجهزة الإعلامية التابعة للحكومات التي اكتفت بـ«الفرحة» بمصادر دخل كبيرة دخلت وتدفقت عليها جرَّاء حملات الدعاية والإعلان الضخمة من دون أن تتنبه لتطوير المضمون وأخذه بمحمل الجدية الكافية.

ظل الخطاب الإعلامي الرسمي بعيدا تماما عن الواقع المعاصر، واستمر في إهانة العقول بتكريس ألفاظ أصبحت مضحكة وغير مقبولة. وكذلك كان الإعلام الرسمي غير قادر على التفرقة بين النقد المسؤول والحس الوطني الذي يغار على الصالح العام وبين الإساءة للدولة، فتم تصوير كل من يقوم بذلك الأمر على أنه «خائن» ولديه «أجندة خاصة» و«متمرد» وغيرها من الألفاظ المهينة التي يصدرها من يهمهم البقاء على أي وضع خاطئ.

فات على الإعلام الرسمي «قراءة» ما يحدث، سواء من الجانب التقني أو «معرفة» اتجاهات الريح الثقافية وحرصه على معرفة ما يحدث بحق وليس بخطاب تم تجميله بحيث بات بعيدا تماما عن قلب الحقيقة.

الإعلام الحكومي كان الصوت الوحيد الطاغي على الساحة وبعدها انفجرت صحف وفضائيات الإعلام الخاص و«تحدت» السقف الإعلامي الذي كان متاحا، لكن اليوم الإعلام «الموازي» ظهر وهيمن، وهو المعتمد كليا على التقنية ويخترق حواجز وزارات الإعلام ومفتشيها بسرعة البرق وبأسلوب مذهل ومليء بالمعلومة، والإعلام الموازي لم ينجح في تجاوز «السقف» ولكن أزال السقف نفسه.

ما حدث في مصر حدث قبلها في تونس وأصاب الإعلام التونسي نشوة مهولة ونهم على تقديم المعلومة والخبر والرأي لشعب حرم منها تماما لعقود طويلة.

الإعلام العربي ظاهريا حصر نفسه بين فكرة أن تعرف أكثر وبين الرأي والرأي الآخر، لكن المسألة الأهم هي أن المواطن العربي اليوم استيقظ ليعرف أنه بات لديه الحق في المعرفة ولن يسلبها منه أحد بعد اليوم.

[email protected]