مصر: تغيير داخل النظام وليس تغيير النظام

TT

على امتداد ثلاثة أسابيع، عكفت وسائل الإعلام الإيرانية المملوكة للدولة على إذاعة أغنية يصاحبها رقص عن «الثورة الإسلامية» في مصر، وتروج لمزاعم حول أن المتظاهرين في ميدان التحرير بالقاهرة هم «الأبناء الروحيون» لروح الله الخميني، الملا الذي سيطر على السلطة في طهران منذ 32 عاما.

مثلا، أوجزت صحيفة «كيهان» اليومية الأوضاع على النحو التالي: «لقد أصبح إسلام الخميني هو محور الأحداث والتطورات في الألفية الثالثة. هناك كتلة إسلامية قوية تصعد تحت قيادة إيران». لاحظ أن كاتب افتتاحية الصحيفة يشير إلى الألفية الثالثة من الحقبة المسيحية! ولاحظ أيضا أن ما يهمه هو «إسلام الخميني»، وليس أي إسلام فحسب.

يوم الجمعة الماضي، خرج «المرشد الأعلى» علي خامنئي ليقدم نفسه للناس باعتباره «زعيم المسلمين في العالم»، وفي خطابين أحدهما بالفارسية والآخر بعربية مترددة، ادعى أن التونسيين والمصريين هبوا «تحت لواء ثورتنا».

الغريب أن حقيقة عدم وجود أي وجود إيراني في تونس ومصر، ولا حتى سفارة، لم تحل دون إطلاقه هذا الادعاء العجيب.

والواضح أن النظام الخميني يجاهد للعثور ولو على الأقل على بعض الصدى لأيديولوجيته الغريبة بأي مكان آخر. في مارس (آذار) 1980، ادعى الخميني أنه «قريبا للغاية» سيكتسح طوفان ثورته «العالم المسلم بأكمله». وبعد 32 عاما، لم يتحقق هذا الوعد في دولة مسلمة واحدة.

العناصر الوحيدة التي نملكها هي حزب الله اللبناني، وفي ما يخص مصر، محمد البرادعي. وحتى حزب الله يعد في جوهره تحالفا لأسلحة، وليس حركة سياسية حقيقية. أما البرادعي فشخص يحاول تعزيز فرص نجاحه من خلال تقديم إغراءات للأميركيين. والواضح أن الانتفاضات في تونس ومصر ليست بها عناصر مشتركة مع الملالي الذين سيطروا على السلطة عام 1979. وإنما تبدو الانتفاضتان أشبه بالثورات المناهضة للنظام الخميني عام 2009 في أعقاب إعادة انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد المتنازع حولها. وقطعا تحول مصير إيران في ظل النظام الخميني الاستبدادي لرسالة تحذير، وليس قدوة يحتذى بها.

التونسيون والمصريون ليسوا عميانا ولا صما، فقد رأوا وسمعوا ماذا جرى لإيران وشعبها في ظل حكم الملالي. وعلموا بأمر عمليات الإعدام الجماعية التي تجاوز عدد ضحاياها 100.000 شخص خلال السنوات الأولى فقط من عمر النظام، ومقتل مليون آخرين في الحرب ضد العراق التي استمرت ثمانية أعوام. وخلال الشهرين الماضيين فقط، أعدم النظام 102 شخص، بينهم نساء وأطفال.

ويعلم التونسيون والمصريون أيضا أن النظام الخميني مسؤول عما وصفه البنك الدولي بأنه «أكبر عملية استنزاف عقول» في التاريخ.

علاوة على ذلك، فإن قرابة 10 % من سكان إيران فروا منها خلال العقود الثلاثة الماضية، في أكبر موجة هجرة في التاريخ الإيراني. ومن بين الأسباب الأخرى وراء قولنا بأن تونس ومصر لن تسيرا على النهج الإيراني أن الأحزاب السياسية في هاتين الدولتين لم تكرر أخطاء نظيراتها الإيرانية.

في إيران عام 1979، أذابت جميع الأحزاب السياسية هويتها في هوية الخميني، حيث قبل الديمقراطيون بمبدأ «ولاية الفقيه» أو حكم الملالي، وتوجه الشيوعيون للمساجد لأداء الصلاة، وارتدت مناصرات الحركة النسوية البرقع الأسود، وأذعن لنظام التمييز على أساس النوع.

إلا أنه في تونس ومصر، حافظت جميع الأحزاب على هويتها لتجنب الانصهار داخل حشود من الدهماء التي أثارت الثورة جنونها. جاءت ثورة عام 1979 في وقت كانت كلمة ثورة لا تزال محتفظة فيه بسحرها الغامض، السحر الذي تلاشى مع تفكك الإمبراطورية السوفياتية وامتصاص الصين داخل النظام الرأسمالي العالمي. ولم يعد تشي جيفارا يجتذب أحدا، ولا حتى كصورة على ملصق. منذ عام 1979، تحولت 113 دولة إلى أنظمة ديمقراطية رأسمالية على درجات متنوعة من التطور.

اليوم، حتى الإسلاميون في تونس ومصر يحاولون التحرك على نحو مختلف، والواضح أن أيا من «النهضة» أو «الإخوان المسلمين» ينظر إلى الإسلام باعتباره سما يجب دفعه بالقوة في حلق الناس.

إن «الوحدة» التي شهدتها إيران في ظل حكم الخميني لم تكن لتفضي سوى لحكم استبدادي، ففي إيران عام 1979، لم تكن هناك مساحة سوى لأيديولوجية واحدة فحسب، ومثلما كشفت الأحداث اللاحقة، كان من المتعذر فرض هذه الأيديولوجية سوى باستخدام القوة. أما التنوع السياسي في تونس ومصر فيفضي إلى التعددية.

لقد كان الخميني غاضبا لوجود قدر مفرط من الحريات الاجتماعية والثقافية داخل إيران في ظل حكم الشاه، وليس قدرا قليلا منها. أما المتظاهرون التونسيون والمصريون فيطالبون بالمزيد من الحريات، وليس الحد منها.

الأهم منذ ذلك أن نظام الشاه كان هيكله يدور حول رجل واحد. وعندما قرر هذا الرجل الرحيل، بدلا من الاستمرار والقتال، انهار الهيكل برمته. في فبراير (شباط) 1979، كانت السلطة في إيران أشبه بصندوق جواهر ترك في الشارع في انتظار شخص لالتقاطه. وبالفعل، التقط الملالي الصندوق من دون جهد يذكر.

في تونس ومصر، سقوط رئيس لم يسفر عن انهيار النظام برمته. وقد أعلن الجيشان التونسي والمصري «الحياد» مثلما فعل نظيرهما الإيراني عام 1979. إلا أن «حياد» الجيش الإيراني عام 1979 كان بمثابة تنازل عن سلطته. لكن هذا لا ينطبق على تونس ومصر، حيث يقف الجيش على الحياد بين حاكم وشارع في حالة ثورة، لكنه لا يقف على الحياد عندما يتعلق الأمر بحماية الدولة.

في مصر، حافظ الرئيس حسني مبارك على رباطة جأشه بدرجة سمحت بإجراء حوار وطني. وفي تونس، ربما يكون ما شهدناه هو انقلاب للجيش أجبر الرئيس زين العابدين بن علي على الرحيل.

لذا، لو كانت تونس ومصر اليوم مختلفتين عما كانت عليه إيران منذ 32 عاما، فهل ستتبعان نموذجا آخر؟

في مقال الأسبوع الماضي أشرت إلى أن إطلاق لفظ ثورة على الأحداث الجارية في تونس ومصر كان سابقا لأوانه.

ربما تتبع كل من منهما نموذجا تطور داخل عدد من الدول الآسيوية والأميركية اللاتينية التي تطورت فيها أنظمة استبدادية تعتمد على قوات مسلحة تدريجيا إلى أنظمة ديمقراطية.

وقد تحقق ذلك في كوريا الجنوبية وتايوان، ومؤخرا إندونيسيا، وكذلك الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وكولومبيا وغواتيمالا وغيرها.

وتدور العملية على نحو شبيه بما يلي: يتطور نظام استبدادي إلى نظام بلوتوقراطي يسمح بتوسيع المساحة المتاحة أمام الانشقاق الذي يوسع قاعدته. في تلك الأثناء، يثمر النجاح الاقتصادي طبقة متوسطة أكبر، والتي تمثل عنصرا حيويا في الميادين السياسية التعددية. وبفضل النمو الاقتصادي والاندماج في نظام التجارة العالمي ينتهي الحال بجميع هذه الدول كأنظمة ديمقراطية.

لكن ينبغي التنويه بأنه في جميع هذه الحالات أبقت حركة شعبية إصلاحية على الضغوط اللازمة لتحقيق تغيير في المسار. من دون إصلاح سياسي، قد يتحقق نمو اقتصادي، لكن ليس تنمية اقتصادية حقيقية. لذلك كانت هناك حاجة لـ«ثورة الياسمين» في تونس والانتفاضة في ميدان التحرير لتوفير الضغوط الضرورية لإخراج البلاد من مأزق تاريخي.