ميادين مصر ومنصاتها

TT

ها هي مصر تنقلب مرة أخرى.. من منصة 6 أكتوبر (تشرين الأول) إلى ميدان التحرير. أبقى جمال عبد الناصر عددا من نواب الرئيس. وأبقى أنور السادات نائبا واحدا. ورفض حسني مبارك حتى الأيام الأخيرة فكرة أن ينوب عنه أحد. كانت لديه قناعة، وليست مجرد فكرة، بأنه لا شيء سوف يخذله.. لا مصر، ولا الزمان، ولا شيء، ولا أحد.

تضافرت العناصر والعوامل ضد قناعة الرئيس مبارك. حسب حسابا لكل شيء، إلا أن تهب رياح التغيير على مصر. الرئيس عبد الناصر حسب حسابا لكل شيء، إلا أن يهاجم الإسرائيليون من الغرب: «انتظرناهم من الشرق فجاءوا من الغرب». كان يريد أن يقول إن الطائرات عبرت من فوق ليبيا. هذه المرة أيضا عبرت الرئاسات الأبدية من فوق ليبيا، التي تحدث زعيمها قبل أيام عن مدى كرهه للسلطة.

مصر تنقلب والعالم العربي يتغير. دائما يحدث انقلابها في مأساة: وفاة عبد الناصر في نهاية قمة عربية نقلت المقاومة الفلسطينية من عمان إلى بيروت، فيما بقيت القضية نفسها في مكانها.. واغتيال السادات على منصة 6 أكتوبر وهو يحتفل بذكرى أول فوز عسكري مصري على إسرائيل.. وها هو حسني مبارك يختم عقوده الثلاثة فيما المصريون في شوارع مدنهم، للمرة الأولى في التاريخ، يهتفون لرحيل رئيسهم، ولا يرتضون أن يبقى لإنهاء ما يسمى بالمهلة الدستورية، أو ثلاثة عقود حمل نصفها على الأقل طابعا غير دستوري.

حاول مبارك أن يظهر للمصريين أنه عسكري، وأنه صامد ولن يتراجع. لكن صمود الشبان الذين خرجوا بلا زعيم وبلا شعارات وبلا يافطات، إلا ما كتب منها على ورق عادي بسيط، هزم صموده، وهزم رؤيته لمصر ومستقبلها. وعندما خرجت «الأهرام» قبل أسبوعين بعنوان رئيسي يقول «حكومة جديدة من دون رجال أعمال»، كان الأوان قد فات، وكانت صورة العهد قد طبعتها صور رجال الأعمال، وبعد دخول طلعت مصطفى السجن في جريمة موصوفة كانت حكومة مبارك الأخيرة ترسل أحمد عز إلى السجن متبرئة من عقدين من الأقاويل.

تأخر الرئيس مبارك في محطات كثيرة من دون أن يلحظ أن القطار الرئاسي يتداعى. لا أدري كم تأخر.. خمس أو عشر سنوات. ماذا لو أنه بعد 20 عاما ذهب إلى شرم الشيخ وأقام في قصر فيه حديقة وسيعة، يأتيها الناس ليلقوا التحية عليه، بطلا من أبطال مصر، ورئيسا من رؤسائها، وابنا محبوبا من أبنائها.