شخصية مصر

TT

اعتبرت موسوعة «شخصية مصر»، التي وضعها الدكتور جمال حمدان، أحد أهم المراجع في علم الاجتماع. ورأى فيها بعض العرب وبعض أهل مصر أثرا أدبيا وسياسيا، وبحثا موضوعيا في شخصية أقدم دولة عربية وأحد أقدم بلدان العالم.. وأقام العالم الجغرافي بحثه الملحمي على قواعد متفق عليها في كل مكان: النيل والفرعون والاستمرارية.

ولست أدري إلى أي مدى حافظ الراحل على مشاعر الموضوعية، أو متى اختلطت المشاعر لديه. لكن الأحداث الأخيرة جعلت لزاما العودة إلى الموسوعة التي يقول فيها إن «العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة استبداد وحق، بينما العلاقة بين الحكومة والشعب هي الريبة والعداوة المتبادلة بكل التفاهم الصامت».

يقول جمال حمدان أيضا: «خلال أكثر من 500 سنة لم تحدث أو تنجح في مصر ثورة شعبية حقيقية واحدة بصفة مؤكدة مقابل بضع هبات أو فورات فطرية، متواضعة أو فاشلة غالبا، مقابل عشرات بل مئات من الانقلابات العسكرية، يمارسها الجند والعسكر دوريا». ويضيف: «وهكذا بقدر ما كانت مصر تقليديا، ومن البداية إلى النهاية، شعبا غير محارب جدا في الخارج، كانت مجتمعا مدنيا يحكمه العسكريون كأمر عادي في الداخل. وبالتالي كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من الحرب، ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم».

رد جمال حمدان كل شيء في مصر الحديثة إلى مصر الفرعونية. من الأعياد الموروثة إلى الخرافات والعادات وبقية التقاليد. ولا ندري كيف كان سيقيّم أحداث مصر الحالية لو بقي حيا، وأي اسم كان سيطلق عليها، وهل كان سيعيد النظر في حكمه القاطع «البداية والنهاية»، فهل للشعوب بدايات ونهايات لا تتغير؟

الحقيقة أن الظاهرة المصرية في الأسابيع الماضية هي غلبة السلوك المصري. نقول الغالب، لا الكل، فالمئات من السياسيين أو الصحافيين أو العاديين، الذين تحدثوا إلى الإذاعات والفضائيات، لم يتخلوا عن أدب المخاطبة والمحادثة. وشيء آخر، لولا مهرجان الهجانة والخيالة الذين دخلوا على ميدان التحرير في مشهد منكر ومنفر، لكان ما شهدناه في تلك الساحة من نظام أمرا غير معروف في أي مكان: أقصى حد ممكن (أشدد على ممكن) من النظافة، وأقصى حد ممكن من الترتيب، وأقصى حد ممكن من السلوك الحسن خلال أسبوعين رغم وجود مئات الآلاف من البشر. حتى إن إحدى المتظاهرات قالت إن القاهرة خلت من سماجة التحرش والألفاظ البذيئة السائدة في الأيام العادية.