خيارات ثورة اللوتس

TT

ثورة اللوتس المصرية تضم الصغير والكبير؛ البنات والأولاد، الفقراء (20 مليونا يعيشون على دولارين في اليوم) والميسورين، الخريجين من الطبقات الوسطى بجانب صبيان الورش وخادمات المنازل.

ثورة اللوتس قوتها (وليس ضعفها) عفويتها التلقائية، بلا قيادة «لما حس الشعب يسبق؛ أي فكر وأي صوت..» في كلمات أحمد فؤاد نجم، تلحين وغناء فنان الشعب المصري المرحوم الشيخ إمام عيسى عام 1975.

كالثورة الفرنسية، ستفرز ثورة اللوتس قياداتها بمرور الوقت - وما 17 يوما (حتى الآن) في تاريخ أمة عمرها 7000 سنة؟

بل إن 58 سنة من الأوتوقراطية العسكرتارية بانقلاب 1952، مجرد «لحظة» في عين أبو الهول التي راقبت قدوم الغزاة، ورحيلهم - أو ذوبانهم في حضارة أقوى وأرقى - والانتفاضات والإخفاقات المصرية، وآخر ثورة ناجحة 1919 والتي أنجبت حكومة سعد زغلول باشا الوطنية وأعظم الدساتير في تاريخ مصر عام 1923.

اليوم 17، لا تزال الأمة المصرية - الأقدم من التاريخ نفسه - في مرحلة الملاحظة قبل تدوين هذا الفصل في صفحة ميدان التحرير؛ لكني كمؤرخ، أعتقد أن ثورة اللوتس المصرية عام 2011، أعظم من الثورة الفرنسية وأكثر تعبيرا عن روح الأمة.

الفرنسية كانت طبقية؛ ثورة الجياع والمحرومين والفلاحين ضد الإقطاع وطبقة النبلاء؛ ولذا كانت دموية انتهت بديكتاتورية بونابرتية جرت فرنسا إلى حروب كثيرة، فهذه طبيعة العسكر. وهذا ما يقلقني.

موقف العسكر الغامض ومصر في مفترق الطرق. ومطلوب الاختيار.

لا أخفي انحيازي إلى النور والتفاؤل «بالورد اللي فتح في جناين مصر».

أعلن انحيازي لثورة اللوتس؛ للشعب المصري؛ لغالبية الـ80 مليونا من أحفاد بناء الحضارة، وقاطعي الأحجار والذين تشققت أياديهم وأقدامهم الحافية وألهبت الشمس الحارقة ظهورهم يحرثون الأرض وينبتون الزرع ويجنون المحاصيل، لآلاف السنين.

وأدير ظهري للطريق الذي سار فيه صدام حسين، وعلي الكيماوي وتشاوشيسكو وأمثالهم، طريق يؤدي إلى مزبلة التاريخ.

يقلقني العسكر، وموقفهم؟

شهود، مصريون وغير مصريين، تعرضوا للاختطاف والاعتقال على يد مخابرات الجيش والضرب والترهيب لحرمانهم من دخول ميدان التحرير (شهادات معتقلين ومنظمات حقوق الإنسان في «الغارديان» 10 فبراير، والمقابلة التلفزيونية مع وائل غنيم مدير تسويق «غوغل» عقب إطلاق سراحه الاثنين 7 فبراير، وغيرهم).

نائب الرئيس، (وتفاءل البعض بملء المنصب الشاغر لـ30 سنة لخنق مؤامرة التوريث)، يقول لمحطة التلفزيون الأميركية ABC إن الأمة المصرية غير مهيأة للديمقراطية!

وزير الخارجية المصري يقول لمحطة NBC إنه من الجنون رفع حالة الطوارئ بحجة أن آلافا من السجناء هربوا من السجن (والمسؤول زميله في مجلس الوزراء المنحل وزير الداخلية السابق حبيب العادلي، بسحبه البوليس من الشوارع، حيث يلجأ الناس للبلطجي الأكبر «العراب» ويدفعون له الإتاوات «للحماية» من البلطجية الصغار، والإتاوة هنا كانت ذوبان الثورة وقبول الأوتوقراطية العسكرتارية)؛ ولا أعلم ما هي حجة الوزير في استمرار فرض الطوارئ لثلاثين عاما كان المجرمون أثناءها داخل السجون، والمجتمع آمن، بشهادة التلفزيون الرسمي وصحف الحكومة الرسمية؟

اللهم إلا إذا كانت الصحافة الرسمية تكذب على الناس، وهو سبب أكبر لعدم قبول أي عاقل حجة الوزير في رفض مطلب رفع قانون الطوارئ، كمجرد علامة على حسن وصدق نوايا حكومة (لم ينتخبها أحد) تقدمها للشعب المصري الذي منح شرعيته لثوار ميدان التحرير، وميدان القائد إبراهيم باشا في الإسكندرية، وميادين السويس وأسيوط والمنصورة وطنطا.

ولن أطرح السؤال البديهي على من يتحدثون للمحطات الأميركية مدافعين عن قانون الطوارئ ومعتبرين الأمة المصرية (التي ولد من رحمها عباقرة وحملة جوائز نوبل، كنجيب ومحفوظ، وأحمد زويل، والدكتور البرادعي، والسير مجدي يعقوب ومئات غيرهم في السنوات الأخيرة فقط) قاصرا لم تبلغ سن الرشد لدخول عصر الديمقراطية - رغم أنها عاشت الديمقراطية التعددية البرلمانية حتى اغتصبها عسكر انقلاب 1952 - سأجنبهم حرج الإجابة عن الأسئلة البديهية: من انتخبكم؟

ومتى خضتم هذه الانتخابات (حتى ولو كانت مزورة)؟

ومن نصبكم أوصياء على الشعب المصري؟

ومن فوضكم للتحدث باسمه؟

سعد زغلول باشا ووفده حملوا مستندا موقعا من مليون مصري (أيام كان تعداد مصر تسعة ملايين) ليفاوض الإنجليز باسم مصر، وخاض الوفد الانتخابات، رغم تفويضه كتابيا من الأمة، ليفوز مكتسحا معظم الدوائر لينشئ حكومة 1922 الوطنية.

لا يوجد في مصر اليوم وزير واحد خاض الانتخابات في أي دائرة؛ ولذا أرفع القبعة تحية للدكتور جابر عصفور، المثقف المصري الذي أدار ظهره لمسخرة الضحك على الشعب.

واجبنا اليوم، كمثقفين، أن نتقي الله في شهادتنا للتاريخ؛ فالشعب المصري سيذكر من وقف بجانبه.

فليس بين العسكر اليوم من يقبل الديمقراطية الكاملة (كما مارستها مصر قبل 1952)؛ لأنها تعني تبادل الحكم وتناوبه بين الأحزاب المختلفة، حيث يسلم الحزب الحاكم مفاتيح مجلس الوزراء (أو القصر الجمهوري إذا اختار الشعب بقاء النظام الجمهوري الذي لم يختره أحد أصلا برلمانيا أو انتخابيا) للحزب الفائز بأغلبية الأصوات. والتخلي عن الحكم لن يقبله العسكر طواعية بعد استفادتهم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا منذ انقلاب 1952 حتى اليوم.

الجنرالات (في أي مكان) بطبيعتهم ليسوا ديمقراطيين، لكنهم براغماتيين (مليار وثلث المليار دولار من أميركا للجيش ليس بمبلغ هين)، وهم أيضا واقعيون لا يريدون أن يدفعهم الكبرياء (فالرئيس واحد منهم) إلى مذبحة، من ماركة تيانينمان الصينية، في ميدان التحرير.

مصر، لـ 7000 عام، بقي نظامها السياسي مثلثا هرميا. قمته فرعون، وقاعدتاه، الجيش، والمؤسسة الدينية. تغير لقب فرعون (والي، حاكم، خديو، رئيس، الخ)، وتغيرت المؤسسة الدينية (إيزيس، إخناتون، المسيحية، الإسلام)، على مر العصور، وبقي الطرف الثالث للمعادلة، الجيش، لم يتغير.

ثورة اللوتس، أدخلت في المعادلة السياسية المصرية، لأول مرة، بعدا رابعا، هو الشعب، الشارع، كل طبقات المصريين، حتى أفقرها، وفي متناولهم وسائل الاتصال، والثورة مستمرة.

المؤسسة الدينية، بشقيها، الأزهر الشريف، وقداسة الكنيسة المسيحية، اختارت ميدان التحرير لا قصر القبة.

الجيش، ربما يخشى تكرار نجاح ثورة 1919 بنظام ديمقراطي وزير الدفاع فيه سياسي منتخب يمثل الشعب وليس جنرالا - وهذا مأزق الجيش، لكن اختياره للجانب الأنصع من التاريخ، سيضعه كدعامة الدولة، في منزلة الجيوش المحترفة العظيمة كالجيش البريطاني والجيش الأميركي.

وأتمنى أن يسرع الجيش المصري باختيار مصر (ويضمن أيضا استمرار الدعم الأميركي) وليس أوتوقراطية مهزوزة المصداقية، لم تر عين أبي الهول شهادة تفويضها انتخابيا أو شعبيا.