مصر.. الأسئلة السهلة والأجوبة الصعبة

TT

تسمر الناس، والعرب على وجه الخصوص، في الأسابيع الماضية لمتابعة المشهد المصري وتطوراته. الأسئلة كانت سهلة، السؤال الأهم: هل هي ثورة الإنترنت والجيل الرقمي؟ وكانت الإجابة - في الغالب - أن هذا صحيح، إلا أنها إجابة قاصرة. لأن لوم الإنترنت يأخذنا إلى مكان بعيد جدا عن الأسباب. بدأ كثيرون لوم الوسيلة ابتعادا عن البحث في الأسباب، كمثل معاقبة المبلغ عن الحريق والتجاوز عن مشعل النار. عصر الإنترنت هو وسيلة، الأسباب تكمن في مكان آخر، لذلك من سوء التقدير السياسي مراقبة أو قطع وسائل الاتصال الحديثة، أو محاربة قنوات تلفزيونية لأنها - لدى البعض - مصدر الاضطراب، هي فقط جسر وممر لا غير، أما الأسباب فهي تقع في مكان آخر كما سوف نرى.

في العدد الأخير من المجلة الأميركية الـ«فورن أفيرز» ذات الباع الطويل في رسم السياسات الأميركية، عدد يناير (كانون الثاني) - فبراير (شباط) من هذا العام، نشر مقال مطول تحت عنوان «القوة السياسية لشبكات الاتصال الإلكترونية» وهي دراسة موجهة إلى متخذ القرار الأميركي، ينصح فيها كتابها باتباع عدد من السياسات الأميركية، ليست مجال حديثنا هنا.

تاريخ نشر الدراسة يدل على أن كتاب المقال المطول لم تصلهم أخبار تونس، وبالتأكيد مصر، حيث كان الحدثان، وقت كتابة الدراسة، في علم الغيب.

ما يلاحظ في الدراسة أنه ليس بالضرورة أن يكون الحشد الشعبي من خلال الشبكات الاجتماعية الإلكترونية ذا نتيجة إيجابية في نهاية المطاف. في بعضه نعم، وفي عدد آخر منه لا..

بعض النجاحات مثل ما حدث في الفلبين؛ ففي 17 يناير 2001 أثناء محاكمة رئيس الفلبين الأسبق جوزيف سترادا، قرر مؤيدو الرئيس في البرلمان أن يخفوا بعض الإثباتات التي تدينه، بعد أقل من ساعتين من اتخاذ ذلك القرار، تبادل الآلاف من النشطين الفلبينيين المستائين من رئيسهم الفاسد، رسالة تليفونية قصيرة نصها «اذهب إلى الساحة في وسط المدينة والبس قميصا أسود»، وبسرعة تضخم العدد، وخلال الأيام التالية وصل إلى الملايين في شوارع وسط مانيلا العاصمة، كان الوضع مخيفا، مما حدا بالمشرعين الموالين للرئيس إلى أن يغيروا رأيهم ويسمحوا بتقديم الإثباتات التي تدينه، وبعد ثلاثة أيام فقط خرج الرئيس الفلبيني من الحكم. في إسبانيا، حدث الشيء نفسه عام 2004 حيث تنادى عشرات الآلاف من الإسبان للإطاحة برئيس الوزراء جوزيه ماريا آزنار، لأنه كذب عليهم حول المتسبب في انفجارات قطارات مدريد، حيث قال في البداية إنهم جماعة الباسك (المجموعة المناهضة للحكم الإسباني في شمال إسبانيا) وتبين لاحقا أن رئيس الوزراء أراد الاستفادة السياسية من ذلك الحدث، حيث عرف الجمهور أن المنفذين آخرون، فأطيح به عن طريق الحشد الشعبي بواسطة وسائل الاتصال الحديثة.

هناك عدد آخر من النجاحات في استخدام وسائل الاتصال الحديثة في الحشد والوصول إلى النتائج المرادة. إلا أن هناك أيضا العديد من الإخفاقات. في روسيا البيضاء، بيلاروسيا، عام 2006 عندما قامت مظاهرات في الشوارع نظمت من خلال البريد الإلكتروني ضد الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، عندما زور الانتخابات البرلمانية، ولكن تلك المظاهرات فشلت في الوصول إلى الإطاحة بالرئيس، جزئيا بسبب القوة الفظة التي استخدمها ضد مناهضيه، وجزئيا بغياب الاهتمام من وسائل الإعلام العالمية.

في مكان آخر قريب منا، فشلت الحركة الاحتجاجية الخضراء في إيران، رغم أن منظميها حشدوا ملايين في الشوارع وأيضا عن طريق استخدام الإنترنت ومن خلال «فيسبوك» و«تويتر»، لقد قوبلت الحركة بقوة ساحقة من مؤيدي النظام والقوة الفظة من النظام نفسه، فلم تأت أكلها.

في تايلاند 2010 المحتجون في وسط بانكوك (القمصان الحمر) الذين استخدموا وسائل الاتصال الحديثة لحشد الآلاف من مناصريهم وسط المدينة احتجاجا على الحكومة، وقررت الحكومة التايلاندية استخدام القوة المفرطة فشتت الجمع، بعد أن قتل العشرات منهم.

هناك إذن أمثلة حية كثيرة وحديثة، في استخدام وسائل الاتصال الحديثة من أجل الحشد والتعبئة للقيام بعمل شعبي واسع ضد نظام قائم. بعضها نجح في مقصده النهائي، وبعضها فشل، لا يتسع المقام هنا لعرض الكثير منها، إلا أن الرسالة التي يمكن استخلاصها أن «الوسيلة» ليست بتلك الأهمية التي يعتقد بعضنا أنها السر السحري لإجراء التغيير، السر السحري يكمن في مكان آخر.

حتى تصل الرسالة، دعونا نذهب قليلا إلى تاريخ أقدم، ديسمبر (كانون الأول) 1955، لم يكن هناك إنترنت ولا «فيسبوك»، حيث قررت المرأة السوداء التي تعمل خياطة في إحدى مدن الجنوب الأميركي أن تركب الحافلة إلى بيتها، ووجدت كرسيا شاغرا ارتمت عليه، وكانت القوانين تفرض أن يخلي الأسود للأبيض الكرسي، ولكنها رفضت عندما صعد رجل أبيض في المحطة التالية، وذهب سائق الحافلة إلى مقر الشرطة، فغرمت المرأة خمسة عشر دولارا، ورفضت أن تدفع الغرامة، وكانت الشرارة التي انطلقت في سماء أميركا بعد ذلك لما سمي لاحقا بحركة الحقوق المدنية التي استمرت 400 يوم، سببت الصداع لكل أميركا، ثم أصبحت روز باركس بطلة من أبطال الحقوق المدنية الأميركية، ونال السود بعد ذلك الحادث الكثير من حقوقهم المدنية.

الشبكات الاجتماعية ووسائل الاتصال الحديثة لا تستطيع وحدها إجبار الحاكم على ترك الحكم أو تغيير رأيه، خطايا الحكم في عصرنا هي التي تفعل ذلك، وهي تراكمية مع مرور الزمن، ومتضخمة نتيجة القراءة الخاطئة للأحداث.

في الحالة المصرية، ليس أكثر من الإشارات العديدة التي كانت تشير إلى مناطق الفساد. من شاهد فلم «عمارة يعقوبيان» للمبدع علاء الأسواني يعرف على وجه الدقة مبلغ الفساد المنتشر، ويكاد الفيلم، أو الرواية السابقة له، أن يشير إلى ذلك بالاسم، وغير ذلك من الأفلام والمسلسلات والكتب والمقالات، لعل آخرها مسلسل وحيد حامد «الجماعة»، وعدد كبير من الكتاب المصريين والنابهين أشاروا إلى المساوئ المنتشرة التي قوبلت إما بالإهمال أو الملاحقة الأمنية والزج في السجون.

النقطة الحرجة عندما يقرر المجتمع المدني أن يتحمل التضحيات، مهما بلغت، لأن العيش في الواقع أكثر إيلاما من تلك التضحيات المطلوبة، عندها ينقلب المشهد، لا كرامة للمواطن ولا حقوق إنسانية في حدها الأدنى مع فساد للنخبة الحاكمة يزكم الأنوف، ويكفى ما ظهر حتى الآن من فساد لمسؤولين مصريين، ربما تصبح فقط رأس جبل الجليد الذي يختفي حتى الآن تحت سطح التسويف.

وهناك ممن إذا وصل إلى سدة السلطة تنفتح شهيته للمال الحرام واضطهاد الناس في الوقت نفسه، فهذا يتطلب ذاك. من شاهد منا ما نقلته وسائل الاتصال (عدسة تليفون جوال) لما حدث على كوبري قصر النيل في جمعة الغضب، ووسائل الاتصال مقطوعة في مصر، حيث فرمت السيارات المصفحة جلود وعظام البشر، يعرف أن استخدام القوة المفرطة من جانب الدولة لا يؤدي إلى النتائج المرادة في الردع مهما بلغت فظاظتها، إن قررت جماعة واسعة من المجتمع المدني دفع الثمن.

إذن هي الحكمة القديمة المتجددة «العدل أساس الملك». ومتى ما فقد العدل، صار مقدمة لفقد السلطة! فلا لوم على الإنترنت؛ لقد ظهرت براءتها.