دور الجيش

TT

مع استمرار الأحداث الدرامية والمتلاحقة على أرض مصر السياسية والسباق المحموم بين قرارات الرئيس حسني مبارك الإصلاحية وارتفاع سقف مطالب المتظاهرين المستمر؛ يبدو أن مصر مقدمة على صدام بين الطرفين ما دام لم تحدث «مفاجأة» كبرى أو صفقة أكبر. ما يحدث الآن في مصر هو ثورة «جديدة».. ثورة من نوع مختلف، وقد تكون أول ثورة حقيقية وتفاعلية في آن واحد يشهد تداعياتها العالم بأسره لحظة بلحظة، وعلى الهواء مباشرة.

مصر في تاريخها الحديث لم تعرف إلا ثورة واحدة حقيقية؛ وهي ثورة عام 1919 التي قادها الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول، شارك فيها الشعب بكافة أطيافه ضد الاستعمار البريطاني للبلاد، أما ما حدث في عام 1952 فكان انقلابا عسكريا على الحكم الملكي قادته حفنة من الضباط ووظفوا كلمة «ثورة» بشكل متكرر في القاموس السياسي للبلاد حتى استقرت في العقول، ونفس الشيء قام بعمله أنور السادات بعد ذلك عندما استخدم لفظ ثورة على حركة 15 مايو (أيار) التصحيحية لإزالة مراكز القوى من الحقبة الناصرية.

هناك تفسيرات واجتهادات وآراء وأقوال كثيرة ومتنوعة تحاول تفسير ما يحدث على أرض مصر، ولكن هناك رأيا واحدا يستحق الوقوف أمامه والتأمل فيه بإمعان؛ الرأي يقول إن ما يحدث الآن في مصر هو انقلاب عسكري على مشروع «توريث جمال مبارك الحكم»، فالسلطات العسكرية (وباعتراف عمر سليمان) كانت تعلم بنية المتظاهرين من قبل، وعن مطالبهم، ولكنهم «تركوهم» ليتواصلوا ويجمعوا أنفسهم وتزداد أعدادهم حتى حدث ما حدث ووجهت الضربات لرموز النظام (أحمد عز وحفنة من رجال الأعمال وأعضاء الحزب الوطني، وجميعهم محسوبون شخصيا على جمال مبارك، وطبعا كذلك وزير الداخلية السابق اللواء حبيب العادلي)، ونزل الجيش بعد بضعة أيام ووقف كمشاهد و«حام لشعب مصر العظيم» و«مؤمنا بطلبات الشباب الشرعية»؛ ليذكر العالم كله والمصريين أن الجيش في مصر هو النظام وأن الدعوة لإسقاط النظام غير واردة لأن الجيش (أي النظام) يستطيع التضحية بالرئيس وصلاحياته وبالحكومة وبالحزب وبمجلس الشعب في سبيل الحفاظ على النظام نفسه، وهذه نقطة في غاية الأهمية.

الجيش في مصر متجذر في الحياة العامة، فقادته يصبحون رؤساء شركات ومحافظين ورؤساء أندية وغيرها من رموز الحياة العامة، وبالتالي الولاء للمؤسسة العسكرية لا حدود له، وخصوصا في ظل النعيم والرفاهية التي توفرها هذه المؤسسة لأبنائها بشكل مميز وفريد، مقارنة بالأجهزة الحكومية الأخرى في الدولة المصرية. «الحفاظ» الذي تقوم به (حتى اللحظة) المؤسسة العسكرية بحق رئيسها حسني مبارك هو نوع من الوفاء لرمز من رموزها وقائد لها حتى لا تهان المؤسسة العسكرية، ولكنها تؤكد، وبشكل دقيق، أن الشعب يأتي أولا، وأنها ستصر على تنفيذ كل متطلبات الشعب وحماية البلاد لتظهر نفسها أنها فوق الصراع السياسي الدائر.

منذ بضع سنوات كان مشروع الخصخصة في مصر يسير بصورة سريعة، وخصوصا في القطاع المصرفي، وتم فعلا بيع «بنك الإسكندرية» وجاء بعده الدور على بيع «بنك القاهرة»؛ وهنا طلب وزير الدفاع، محمد حسين طنطاوي، مقابلة الرئيس مبارك وقال له: «إحنا معترضين على البيعة دي يا ريس، وشايفين إن البلد بتفرط في أصولها»، وفورا أوقف الرئيس البيع؛ مما أغضب المشرفين على الخصخصة، ولكن الرئيس استمع لدائرته الأهم التي يراهن عليها اليوم: دائرة الجيش. ولعل الزلة التي خرجت من نائب الرئيس منذ يومين فيها شرح واف للمسألة عندما قال: «إما الانتقال الدستوري أو الانقلاب».

الجيش يقف على خطوط تماس دقيقة، ولكنها غير واضحة الملامح، وهي: هل هو حامٍ للشعب أم الرئيس أم النظام، كل خطوة يقدم عليها في الساعات القليلة القادمة ستفك هذه الألغاز.

[email protected]