الانقلاب.. الثورة.. التغيير

TT

سادت كلمة الانقلاب في عقود الخمسينات والستينات في لغتنا السياسية العربية، ويبدو أنها كانت من الكلمات الإيجابية الوقع في تلك الحقبة، لأنها غالبا ما كانت ترتبط بـ«الانقلاب» على الوضع القائم المرتبط بالعمالة والخيانة والاستعمار... إلى آخر معزوفة ذاك الزمان. وكان الانقلاب في تلك الفترة «سهلا ممتنعا»: مجموعة من الضباط يزيحون مَن في السلطة ويتلون البيان رقم واحد، الذي يعلن استيلاءهم على الحكم وفرض الأحكام العرفية وحالة الطوارئ ومنع التجول، خوفا من أعداء الشعب والمتربصين بالثورة الفتية - لاحظ استعمال كلمة ثورة بدلا من انقلاب - ويعلنون عدة قرارات عاجلة بما يعود بـ«النفع على الشعب ومصلحة الوطن الغالي». كما تتخذ فرمانات عاجلة للتخلص من العهد البائد تبدأ بالنفي الأبدي في غياهب السجون، وتنتهي بالموت الزؤام لـ«خائني الشعب والوطن».

وشيئا فشيئا تبدأ الأمور بالعودة إلى حالتها «الطبيعية» ويبدأ الانقلابيون الجدد بأخذ مواقعهم، وتعزيز مراكزهم الأمنية والمخابرات وزيادة أرصدتهم، إلى أن يأتي الانقلاب الذي يليه، وهكذا دواليك. وفي الغالب فإن الانقلاب التالي يقوم به أقرب المقربين من قائد الانقلاب الذي سبقه، ويكون بذلك رفيق الأمس قد «قلب ظهر المجن» - كما تقول العرب - لرفاق الأمس، ويتكرر المشهد مع بعض الاختلافات الشكلية.

لم يكن العسكر يسمون أنفسهم انقلابيين، بل كانوا يصفون أنفسهم بالثوار، وكانت كلمات الثورة ومشتقاتها ذات وقع جميل في ذلك الزمان، فالثورة مرتبطة تاريخيا بالانتفاض ضد الظلم والقهر والتعسف والاستعمار، ولكن العسكر في عالمنا علكوها علْكا، ورفعوا شعاراتها متاجرة، وصادروا نبلها وانحرفوا بمبادئها. ففي عالمنا تحول الثوار إلى ثيران، وتكرّشوا من نهب شعوبهم وامتصاص خيراتها، واستمروا يرددون شعارات الثورة وقيمها البائدة التي تلاشت مع مُثلهم المكتوبة. كلمة الثورة، أصبحت مثل أشياء ومفاهيم ومعتقدات جميلة شوّهناها من كثرة المتاجرة بها، الدين السياسي يحاول مصادرة تلقائية المطالب الشعبية المشروعة في تونس ومصر، ثم يتاجر بها مثلما عمل الساسة على مر التاريخ والحاضر.

لعل كثرة اجترار كلمة الثورة أفقدها طعمها ووقعها في أذهان الجماهير، فشاعت عبارة «التغيير»: نحن أمة نخشى التغيير، في عقلنا الباطن: «الله لا يغيّر علينا»، الجيل الجديد يريد التغيير، ينشد نسف الحال وتغيير المحال، إنه جيل لا يخاف ولا يهاب السلطة، ومطالبه أحيانا غير واضحة المعالم: ترى! هل دفعتهم أنظمتنا إلى اليأس بحيث لم يعد يهتم بالبديل؟ «المهم التغيير وبس»: عبارة يرددها الجيل الرقمي على صفحاتهم ومدوناتهم وتغريدهم عبر التويتر.

كتبت مقالا قبل سنتين حول غرق مئات الشباب المصريين في عرض البحر، أثناء محاولاتهم العبور إلى أوروبا، ألوم أنفسنا فيه، أن دفعنا أبناءنا إلى الهرب منا بلا رجعة، فكان استعدادهم للموت هربا من العيش معنا لأنه أصبح مستحيلا: «هؤلاء هم صنيعتنا، وهم نتاجنا الذين أرضعناهم حليب الوطن، وحفّظناهم حب الوطن من الإيمان عن ظهر قلب، وغرسنا فيهم قدسية التراب وواجب حب الديار. لقد صلّوا في مساجدنا، ودرسوا في مدارسنا، ونهلوا من مناهجنا، ورددوا معنا نشيد الصباح».