التحرير: المكان والماكينة

TT

نيوتن لم يصنع قوانينه الرياضية بل اكتشفها، والدكتور زويل لم يخترع مقياسا جديدا للزمن هو «الفيمتوثانية» بل اكتشفه.. خلق الكون إذن مجهزا بكل ما هو في حاجة إليه من قوانين. وعلى الإنسان أن يسعى إلى اكتشافها من أجل إثراء الحياة بكل ما هو مفيد ونافع. مع كل اكتشاف سيكسب الإنسان أرضا جديدة يتحرك عليها، وربما أيضا سماء جديدة يطير في أجوائها. كل كشف سيدفعك إلى الأمام، إلى أن جاء اكتشاف «فيس بوك» ليدفع ملايين الشباب إلى ميدان التحرير ليطالبوا بمصر جديدة يستمتع فيها أهلها بالمزيد من الحرية وحقوق الإنسان، وهي المطالب التي حددوا فيها تنحي الرئيس مبارك عن الحكم شرطا لتحقيقها. وهو ما حدث بالفعل بينما أنا أكتب لك هذه السطور، نعم.. تنحى عن حكم مصر بعد حكم دام ثلاثين عاما رئيسا وخمسة أعوام قبلها نائبا للرئيس السادات. السيارات في الشوارع تطلق أبواقها في صخب وفرح، والملايين في ميدان التحرير يهللون احتفالا بنجاحهم في تحقيق مطالبهم التي رأوا فيها، ورأت معهم المؤسسة العسكرية، أنها مشروعة.

ها نحن نكتشف في مصر قانونا جديدا سبق لشعوب أخرى أن اكتشفته واستمتعت بتطبيقاته وهو أن الحرية لا تصدر بها قرارات سلطوية بل يحصل عليها الناس عندما يصرون على طلبها. وربما اكتشف أساتذة الاجتماع السياسي قوانين أخرى ربما نبه لها عدد كبير من الكتاب من قبل وهو أن أصول الحكم لا تعرف الكذب والخداع واحتقار الناس، والتربح واكتناز الأموال، وربما اكتشف أيضا العاملون وأنصار النظام المتنحي أن السياسة ليست فرعا من فروع النذالة.

أعود لفكرة قوانين الكون المختبئة في انتظار من يكتشفها لكي يجعل فيها حياة البشر أكثر عدلا ورفاهة وجمالا. ولما كنت أؤمن بوحدة قوانين الحياة، وبأن كل ما يحدث داخل جسم الإنسان هو بذاته ما يحدث في الكون حوله، وهو ما يجعلني أقول إن للأخلاق قانونا لا يقل في تأثيره عن أشهر قوانين نيوتن وهو أن «لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه»، أعتقد أن هذا القانون هو الحاكم في السياسة، كل ما تفعله بالناس، كل ما تسببه لهم من ألم وإحباط، كل ما توفره لهم من تعاسة، كل ما تصبه عليهم من احتقار ولا مبالاة وأكاذيب لا بد أن يرتد إلى صدرك وبالقوة نفسها. وتحت تأثير القانون نفسه عن الفعل ورد الفعل، اسمح لي أن أنتقل إلى عالم الفن لكي أحدثك عن ماكينة التحرير «Editing machine»، إنها تلك الماكينة في صناعة السينما التي نقوم عليها بتحرير الفيلم من اللقطات الزائدة، كما نضبط بها طول اللقطات والمشاهد، ليس زمنيا فقط، بل وشعوريا. إنها عملية المونتاج التي تتطلب من المونتير حساسية فائقة وذلك للحفاظ على إيقاعات العمل الفني. لكل عمل فني - وربما كل فعل على وجه الأرض - إيقاعاته التي تحفظ عليه إبداعه. الكلمة بالإنجليزية تعني «التحرير» التي نستخدمها أيضا في الصحافة. إن أهم ما يتسم به المونتير هو القدرة على تحرير الفيلم من تلك المشاهد التي تبطئ سيره وتثقل مسيرته، وفي صنعة الكتابة بوجه عام يكون التحرير جيدا عندما يتم التركيز على الفكرة الأساسية في الموضوع والتخلص من الزوائد المعطلة. وحتى عندما نعود إلى السياسة، أليس تحرير شعب ما هو بالتحديد تخليصه مما يثقل كاهله من فساد وظلم؟

إن المشاهد للعمل الفني لا بد أن تتوافق إيقاعاته الداخلية مع إيقاعات العمل الفني، وإلا شعر بضيق شديد يدفعه في نهاية الأمر إلى الانصراف عن العمل الفني. هكذا الأمر في العمل السياسي؛ كل قرار سياسي لا بد أن ينطوي على فعل ينمو أمام عينيك ويكون له أثره الطيب عليك. هذا الفعل مستحيل الاستغناء عنه واستخدام الأغاني والأناشيد عوضا عنه. لا بد أن هناك في الكون ماكينة تحرير كبيرة للغاية وظيفتها قطع المشهد عندما يطول زيادة عن قدرة الناس على تحمله. هكذا تم إزالة المشهد الذي طال لثلاثين عاما بينما اللقطات المفيدة فيه لم تكن تتطلب أكثر من ثلاثة أعوام. كل مصري كانت لديه ألف قصة قصيرة مؤلمة، وعدد من الروايات المفجعة، مصادر الألم في حياة المصريين كانت أكثر من أن تحصى، كان الموظف العام عند المصريين مصدرا للعدوان والشر، لا بد من دفع فريضة في كل مكان وكل مرفق، وحتى عندما يفلت من هؤلاء جميعا فلن يستطيع الإفلات من نفقات الدروس الخصوصية، تصور.. دولة معاصرة، لديها نظام تعليمي ووزارة تعليم، أطفالها لا يتعلمون في مدارسها بل في بيوتهم وبيوت المدرسين. وعلي رب الأسرة أن يحرم نفسه من الضروريات لتعليم أطفاله. تراكمت الآلام والإحباطات داخل البشر لسنوات طويلة فخرجوا جميعا إلى الشوارع في كل المدن، كل ذلك حدث على خلفية من الحملات الإعلانية التي تروج للفيلات في الأحياء الجديدة في القاهرة وشواطئ مصر، كان من الشائع أن تقرأ إعلانات يومية تقول: ادفع خمسة ملايين والباقي ادفعه بالتقسيط.

إذا كان تحليلي صحيحا، فمن الصحيح أيضا أن أقول لمن يتخوفون من وصول الإسلاميين إلى الحكم في مصر: كانت جماعة «الإخوان» جزءا من المشهد، ومحتوى المشهد هو الثقافة السائدة، شخص واحد يتم كل شيء على الأرض «بتوجيهاته»، ثم جماعة من البشر عليها أن تطيعه وتتحمل ما يفعله بها هو ورجاله. هذه هي أيضا تركيبة الجماعة الداخلية، مرشد وجماعة تسمع وتطيع، كانت الحكومة في حاجة إلى وجودها وكانت الجماعة أيضا في حاجة إلى الحكومة. وفي غياب هذه الثقافة السائدة العامة، أي بإزالة المشهد من الفيلم، ستختفي الجماعة بتركيبتها التاريخية وربما يقودها الشباب فيها إلى حزب مدني تكون الحرية وحقوق الإنسان طابعه المميز. كل من لعب دورا ولو كان صغيرا في المشهد الذي تمت إزالته، حكومة أو معارضة، في الصفوف الأولى أو الأخيرة، لن يكون له وجود في بقية أجزاء الفيلم.

ستكون هناك مرحلة انتقالية تعقبها مرحلة انتقامية، وربما مشت المرحلتان جنبا إلى جنب، ولكن علينا أن نجعل المشهدين قصيرين للغاية. مرة أخرى، سيتم فتح ملفات قضايا تتعلق بجرائم كثيرة ارتكبها بعض أعمدة النظام «دفاعا عن الوطن»، ستنكشف أجهزة كانت تعمل لحساب النظام في إطار غير قانوني. كل الفلوس المنهوبة سيتم مطاردة أصحابها وسيتم استعادة أجزاء كبيرة منها، الأجهزة نفسها التي كانت تساعد بعض الناس على نهب المصريين، هي بذاتها من سيطاردهم ويكشف عن جرمهم.

مصر داخلة في برج الحرية والعزة الوطنية، بعد أن تمكن المصريون من تحرير أنفسهم.