ثورة مصر وصراعاتها المقبلة

TT

أخيرا.. أعلن الرئيس المصري تنحيه عن منصب رئاسة الجمهورية، وتحقق بذلك هدف أساسي من أهداف الثورة الشعبية التي بدأت يوم 25 يناير (كانون الثاني) ودامت ثمانية عشر يوما.

وبذهاب رئيس الجمهورية، وتولي الجيش إدارة البلاد، يبدأ العمل الحقيقي لتحقيق أهداف الثورة، فتنحي مبارك ليس سوى العنوان، أما تغيير طبيعة النظام فهو الهدف الأساسي والأكبر. وهنا نطرح مهمات من نوع مختلف:

المهمة الأولى: تغيير جوهر النظام، ليصبح نظاما يعبر عن مبدأي الحرية والديمقراطية، وباعتبار أن هذا هو الهدف الأساسي للثورة، وهو هدف يطال الأشخاص، كما يطال آلية الحكم، بدءا من صلاحيات رئيس الجمهورية، وانتهاء بالحزب الحاكم، وطريقة عمله التي أدت إلى إلغاء الحياة السياسية في مصر، مرورا بالوجهة الاجتماعية للنظام، ورعاية نظام اقتصادي جديد، يحقق مصلحة الشعب، ويبعد عن هذه المصلحة رجال الأعمال، وآلية الفساد المنظم الذي كان سائدا بينهم، مع ضرورة إعادة النظر بمبدأ تداخل رأس المال مع الحكم.

المهمة الثانية: أن تجد كل هذه الأمور موقعا أساسيا لنفسها في الدستور الجديد المنتظر، إذ إن المطلوب ليس تغيير بعض المواد في الدستور فقط، بل المطلوب إعادة صياغة الدستور ليكون بمثابة عقد جديد ينظم العلاقة بين السلطة والشعب، ليصل إلى قضايا من نوع الانتخابات الحرة غير المزيفة، وحرية التعبير في الصحافة والإعلام، وحرية العمل السياسي، واستقلال القضاء، وإلغاء حالة الطوارئ.

إن الوصول إلى هذه الأهداف، التي هي الأهداف الحقيقية للثورة، لن يكون أمرا سهلا. إذ سينشأ، موضوعيا، صراع بين الأفكار والاتجاهات، وسيكون هناك فريق ينظر إلى شعار «التغيير» على أنه يعني تغيير أشخاص الحكم، أو أنه يعني محاسبة ومحاكمة مجموعة من رجال الأعمال الفاسدين، ومن دون أن يكون تغيير الأشخاص مدخلا لتغيير بنية الحكم أو بنية النظام.

وستواجه الثورة بدءا من الآن، معضلات أساسية تتعلق بأمرين: طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، وطبيعة العلاقة مع إسرائيل.

في العلاقة مع أميركا، سيبرز اتجاه يدافع عن هذه العلاقة وعن ضرورة استمرارها كما هي، وسيركز في دفاعه على المصلحة الاقتصادية (المساعدة السنوية بنحو ملياري دولار)، وسيركز على تسليح الجيش المصري وتدريبه، حيث أصبح سلاح الجيش المصري بأكمله سلاحا أميركيا، وحيث يتدرب ضباط الجيش المصري بالعشرات في الولايات المتحدة الأميركية. وهذان أمران يستدعيان استمرار العلاقة. وسيبرز بالمقابل رأي آخر مضاد، يقول إن العلاقة المصرية - الأميركية تحولت إلى علاقة تبعية، وإلى علاقة اندماج في الاستراتيجية الأميركية (العراق، فلسطين، سورية، السودان، إسرائيل) وإلى حد يهدد المصالح الأساسية للأمن القومي المصري، ولا بد من الخروج بها من هذا النوع من العلاقة، لتصبح علاقة دولة بدولة، ثم تعود مصر لتبني سياستها الخارجية والعربية، بناء على مصالحها لا على أوامر الإدارة الأميركية.

وفي العلاقة مع إسرائيل، سيبرز أيضا الرأي الذي يقول بضرورة الحفاظ على معاهدة السلام المعقودة مع إسرائيل، لأن مصر ملتزمة بالمعاهدة باعتبارها معاهدة دولية، ولأن قرار الانتقال من السلم إلى الحرب ليس قرارا سهلا، ولأن الولايات المتحدة، وبما تمثله داخل مصر من وزن اقتصادي وعسكري، تدفع باتجاه الحفاظ على العلاقة القائمة مع إسرائيل. وسيبرز بالمقابل الرأي الآخر الذي يقول إن على مصر أن تتعامل مع هذه القضية بناء على مصالحها، فالاتفاقية الموقعة مع إسرائيل تنص على إمكان إعادة النظر بها بعد خمسة عشر عاما من توقيعها، وقد حل هذا الموعد مرتين ومن دون إعادة نظر بالاتفاقية. وهناك كثير من البنود التي يمكن إعادة النظر بها، لنقل سيادة مصر على منطقة سيناء بكاملها، من مجرد الإقرار بالمبدأ كما هو الآن، إلى تطبيق السيادة بكل مظاهرها. وهذا يتناول حق مصر في الوجود في سيناء بحرية، على صعيد الأمن، وعلى صعيد الجيش، وعلى صعيد حركة الناس وإنشاء مشاريع بناء سيناء، مدنا ومصانع، وكل ذلك قبل الوصول إلى موضوع بقاء المعاهدة أو اعتبار أنها أنجزت وحققت ما أريد منها.

ويمكن لهذا الرأي الآخر أن يقول أيضا، إن المصلحة المصرية تقتضي النظر إلى العلاقة مع إسرائيل، على ضوء سياسة إسرائيل تجاه العرب، وتجاه الفلسطينيين بشكل خاص، فهذه السياسة تتسم بالعدوان، وبالاستعداد الدائم للحرب، وبرفض أي توجه جدي نحو التسوية السياسية، وهي تهدد لبنان وسورية والأردن، وهي تسعى إلى مواصلة احتلال الضفة الغربية، وانتزاع مدينة القدس وضمها إلى إسرائيل، ولذلك لا يمكن أن تكون هناك علاقة تحالف معها تبتعد عن العرب ومصالحهم، إلى الحد الذي حصل في أيام حكم مبارك.

ومن المؤكد أن هذين الرأيين إذ يتواجهان، فإن تواجههما سيثير قضايا حساسة تنعكس آثارها على الوضع العربي بأكمله، وعلى الوضع الفلسطيني بشكل خاص، وهذا ما يسمى دور مصر العربي الذي تم التخلي عنه.

هنا.. لا نستطيع تجاهل الوضع الدولي وضغوطه، وبخاصة الضغط القادم من واشنطن، وقد اتسم هذا الضغط حتى الآن بالذكاء، وبالمظهر الإيجابي، فهو تبنى بشكل مراوغ دعوة الرئيس مبارك للتنحي، وأطلق مواقف لفظية توحي وكأنه يؤيد شعار التغيير الذي دعت إليه ثورة الشارع المصري. ولكن هذا الموقف الأميركي كان يضمر ولا يزال، دعوة لتغيير الأشخاص، ودعوة للاستجابة لبعض مطالب الشارع، من أجل أن يبقى النظام قائما في جوهره، ومن أجل أن تستمر العلاقة الأميركية - المصرية على حالها. ومن المؤكد أن هذه الوجهة الأميركية ستتضح أكثر وأكثر في الأيام المقبلة، وسينتظر الجميع طبيعة الرد المصري عليها.

لقد أشاد الجميع بثورة الشعب المصري، وقالوا إنها ثورة فريدة من نوعها، في التاريخ المصري، وفي الوضع العالمي، وهي فعلا كذلك، لأنها ثورة شعبية، من دون قيادة، ومن دون أحزاب، ومن دون زعيم، ولأنها أيضا ثورة سلمية وصلت إلى هدفها الأول بسرعة قياسية. وهي ستحدث، إن نجحت، تغييرا في توازن القوى العالمية، من خلال علاقة هذه القوى بمنطقة الشرق الأوسط التي تضم العرب وإيران وتركيا، ولأن منطقة الشرق الأوسط تمثل بندا أساسيا في صراع القوى العالمية الآن. ولهذا سيكون الصراع الذي سينشب داخلها بين الاتجاهات والمواقف والآراء، صراعا حادا ومصيريا.

وهذا ما سيشكل جوهر العمل السياسي في مصر في الأيام المقبلة. فقد انتصرت الثورة، ولكنها لم تنجز بعد أهدافها الكاملة، أهداف بناء نظام الحرية والديمقراطية.