بين القيادة الفكرية والقيادة السياسية

TT

يصنف الدكتور زكي نجيب محمود ملامح القيادة الفكرية لدى الأمم، فيرى أن في إنجلترا وفرنسا تكون القيادة للمفكرين من رجال الأدب والفن والثقافة والفلسفة، وفي ألمانيا تترك القيادة الفكرية في أيدي أساتذة الجامعات؛ فالناس هناك يثقون بأصحاب التخصصات العلمية، وفي أميركا تكون قيادة الفكر للخبراء، أولئك الذين مارسوا العلم تطبيقا.

في العالم الثالث - وعلى رأسه عالمنا العربي - ثمة خلط بين القيادة السياسية والقيادة الفكرية؛ حيث لا تطيق بعض القيادات السياسية وجود قيادات أخرى غير قيادتها الأحادية، فيسعى بعضها حثيثا لضم القيادتين لينفرد بالتنظير السياسي والفكري، وتحولت بعض القيادات السياسية إلى منظرين في الفكر والرواية والشعر والدين إلى جانب السياسة، وبالتالي تراجع دور الأدباء، والفنانين، والفلاسفة، وأساتذة الجامعات، والخبراء، فلا صوت يعلو على صوت القيادة الأحادية، فهذا الصوت يتوهم امتلاك الحقيقة الكاملة والشاملة، والنتيجة أن القيادة الفكرية في أنحاء كثيرة من العالم الثالث عموما، والعالم العربي خصوصا، سرقها الانقلابيون العسكر منذ عدة عقود، وغدا الفكر رهنا لحالة السياسة، يتحرك في كنفها، ويستظل بظلها، ويتلون بلونها، وأصبح المفكر تابعا لا متبوعا، وهذا سبب الفجوة في الحالة الفكرية بين دول العالم.

وما حدث في تونس ومصر مؤخرا فرض التفاتة قسرية لتفعيل دور القيادات الفكرية، وأصبحنا نسمع مطالبات بمجالس حكماء، وتفعيل أدوار فقهاء القانون، والاستعانة بأساتذة الجامعات في حقول تخصصاتهم، وقد يمتد الوعي للاعتراف بأدوار الأدباء والفنانين، أولئك الذين يمتلكون رؤى خاصة تتجاوز ما علق بالسطح إلى الأعماق، وهؤلاء يحظون بحضور بارز في العالم المتقدم، وليس أدل على مكانتهم من تجاوز إمبراطور فرنسا جمهرة النبلاء الذين احتشدوا في قصره ليذهب لزيارة الفنان العظيم دافينشي، وهو يردد: «أنا أصنع هؤلاء النبلاء بالمئات، أما فنان مثل دافينشي فالله وحده القادر على خلقه».

إن إحياء أدوار القيادات الفكرية ضرورة للنهوض بالمجتمعات؛ حيث يفترض أن تسند إلى هؤلاء مهام تشخيص مشكلات المجتمع، ووضع الحلول، والاطلاع بأعباء التطوير؛ فالقيادة السياسية تظل دائما في حاجة إلى مشاركة هؤلاء لتوسيع دائرة الرؤية، وتنويع موائد الحلول، وهذا لا يتحقق إن لم تقترب المسافة بين القيادتين السياسية والفكرية، فهل يمكن ذلك؟

[email protected]