عالمان

TT

تغيرت جميع العواصم العربية في العقود الثلاثة الماضية على نحو لا يصدق. اتسعت وامتدت وارتفعت فيها الأبراج، لكن أيضا نمت على أطرافها، وأحيانا في قلبها، أحياء الصفيح والفقر. غير أن ما حدث في كل مكان لا يقارن بما أصاب القاهرة، حيث يصل كل عام نحو نصف مليون فقير، ويهجر المئات إلى المدن الجديدة على أطراف المدينة. وكنت أمتع النفس دائما بالمشي على أرصفة النيل وفي شوارع الدقي والزمالك والمعادي متأملا تطريز المباني القديمة وأسوار الحدائق التي كنا نشاهدها في أفلام الأسود والأبيض، لكن كان يفاجئني، في بعض أجمل بقاع العالم، مشهد الزجاج المكسور، والشرفات المحطمة، والشقق المتروكة للشمس والزمان، بلا وريث أو وكيل.

وعندما كنت أزور أصدقائي في مدينة 6 أكتوبر بعيدا عن زحام الوسط وعتق القاهرة، كنت أشعر بأن مصر أصبحت عالمين متباعدين، واحدا تحده مدينة الأموات، التي تكاد تعلن استقلالها في عالمها المحزن والغريب، وآخر مداه برك السباحة ومراكز التسوق ومتاجر الألبسة الفاخرة. وتحت وطأة كل هذا الفقر والعوز فقدت القاهرة سحرها الماضي، وفقد المصريون دعاباتهم وابتساماتهم وحتى آدابهم المشهورة، وتحولت المدينة إلى فزاعة من التحرش والبلطجة، دعك من الزحام والزعيق والمتعبين الذين فقدوا أعصابهم وطاقة الاحتمال، منهم من أتعبته ساعات العمل الطوال، ومنهم من أتعبته البطالة الدائمة. وعام 2006 تقدم 8 ملايين مصري بطلبات للحصول على تأشيرة هجرة إلى أميركا، أي 10% من سكان البلد. ويقول تقرير للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان إن نصف مليون مصري دخلوا أوروبا خلسة خلال العقد الماضي. لكن ليس الفقراء وحدهم من صاروا يتركون مصر، فهناك أكثر من مليون حامل شهادة دراسات عليا يعيشون في أميركا وأوروبا، وقد لا يعودون، إضافة إلى ملايين آخرين.

مدن الضواحي ليست القاهرة. لا شيء من تاريخها وجمالها وضفافها، لا شارع محمد علي، ولا المساجد القديمة، ولا قصور إسماعيل باشا، ولا شيء من تكدسات التاريخ المصري ومعالمه.

في فيلم «الأرض» ليوسف شاهين، يوثق الفلاح محمود المليجي من قدميه إلى ساقي حصان يركبه المأمور، ويأخذ في سحله حتى يختلط جسده بالطين والدماء النازفة، رافضا التخلي عن منزله وحياته. نصف الصعيد يعيش الآن على أطراف المدن وبقاياها بعيدا عن الأرض وكرامة الفقر وروابط العائلة.

لم تبدأ هذه الظواهر في عصر حسني مبارك، لكنها استفحلت في زمانه.. وكان يعتقد أن المصري لا يتغير وصبره لا ينضب.. لكنه للأسف كان على خطأ.