اليوم الثامن عشر: مصر حرة عربية!

TT

كأن تونس الخضراء الهادئة قد قدر لها أن تكون الشرارة التي تفجر الحدث الأهم في تاريخ العرب الحديث، وكأن محمد البوعزيزي الذي حرق نفسه احتجاجا على إهانة كرامته الشخصية، قد أشعل فتيل استعادة الكرامة العربية. ولكن عندما تكون مصر في قلب الحدث، فإنه هنا سيكون مختلفا عن أي حدث آخر شهدته بلدان عربية عديدة خلال العقود الماضية. السبب الأول هو أن الحدث هنا تصنعه جماهير أم الدنيا، وهم صناع العبور، وبناة الأهرام، ومفجرو ثورات التحرير العربية من الاستعمار. والسبب الثاني هو أن مصر أضعف إخراجها من الصراع العربي - الإسرائيلي العرب بشكل أصابهم بالهوان والذل وهم يرون الغرب يسلح إسرائيل بالغطرسة، والتعنت، ويسلح أنظمة الاستسلام بالديكتاتورية والقمع والاستبداد، وفي ظلام المهانة القومية هذا انتعشت الصهيونية. يقول نتنياهو: «استمتعنا بثلاثين عاما من الهدوء والطمأنينة». هاجمت خلالها إسرائيل لبنان وفلسطين يوميا، وشنت عليهما عدة حروب، بالإضافة إلى تماديها في التنصل من السلام وتوسيع الاستيطان، وتزايد خلالها تطرف قادتها.

والسبب الثالث، هو أن مصر طيلة هذه العقود كانت تقيد شعبها وتستفزه يوميا، عندما يرونها الحليف الأول للغرب وإسرائيل، ولذلك ظل الغرب «الحر الديمقراطي» طوال ثمانية عشر يوما عاجزا عن دعم ثورة الحرية والديمقراطية التي يدعون تأييدها في بلدان أخرى. والسبب الآخر هو أن مسار الديمقراطية العربية التي أرادها بوش وجلادوه وجنرالاته مسارا ملطخا بعار الاحتلال الأجنبي، أصبح الآن مسارا مزينا بانتصار إرادة الجماهير على الطغاة والقمع. كل هذه الأسباب درجت على أن تضع الشعب العربي في آخر حسابات الطغاة المحليين، وعبر الأطلسي، حيث لم يتوقع أحد ثورة هذا الشعب، ولذلك يعبرون عن صدمتهم من حجم التضحيات والشهداء الذين قدمهم هذا الشعب العظيم بسخاء، والذين أضاءوا طريق الحرية والانتصار إلى أن تحققت مطالبه بالحرية والكرامة.

واللافت للعرب جميعا، وربما للعالم، أمران اثنان: أولهما، موقف الشعب العربي من المحيط إلى الخليج المتضامن مع ثوار ميدان التحرير وكفاحهم المشرف من أجل الحرية والكرامة، مقارنة مع موقف الولايات المتحدة والغرب عموما، وإسرائيل بشكل خاص، ضد هذا الكفاح. لقد برهن تفاعل العرب مع ثورة الحرية، على أن اتفاقية سايكس بيكو لا قيمة لها في قلوب وضمائر العرب، وأن التوق العربي للحرية في ظل العروبة السمحة ما زال يجيش في قلب وروح كل عربي.

وهذا هو العنصر الأول الذي حاولت إسرائيل وحلفاؤها في الغرب طوال عقود طمسه من وجدان، ومناهج، وأحاديث، وسياسات العرب جميعا، محاولة بث الفرقة والفتنة وتعزيز الحدود الفاصلة لتكون بديلا عن القواسم الرابطة بين العرب، إلى درجة أن مراكز الأبحاث الغربية تسألنا لماذا نتحدث عن فلسطين ونحن سوريون، أو مصريون، أو لبنانيون، غير مدركين أن أواصر التاريخ، والثقافة، والدين، واللغة، والكفاح المشترك، عابرة لتلك الحدود المصطنعة التي رسمها المستعمرون لنا، واليوم برهنت على أنها عابرة لعقود من الاحتلال الفكري، والتدمير الوجداني، وحملات التشويه المنظمة التي يقوم بها الكيان الصهيوني للحط من قدر العرب في المنطقة والعالم.

أما موقف الولايات المتحدة والغرب برمته وإسرائيل من ثورة الحرية في الوطن العربي، فهو الموقف الذي يجب أن يحدد مستقبل العلاقات العربية – العربية من جهة، والعلاقات العربية – الغربية من جهة أخرى. وسوف أعكف فورا على شرح الأسباب. أقل ما يقال عن الموقف الأميركي، هو أنه كان مترددا، ومتناقضا، ومشتتا، ومتواطئا مع إسرائيل لحقن النظام المصري بالحياة وبشكل لا يليق بدولة عظمى تدعي الدفاع عن الحرية، وتشن الحروب لنشر الديمقراطية. والسبب في ذلك هو ربما، حال الصدمة والارتباك التي أصيبت بها الإدارة الأميركية نتيجة هذه المفاجأة التي فجرها الشعب العربي في تونس أولا، ثم في مصر، والتي تشكل استهلالا يليق بقرن جديد، وحقبة تاريخية يصنع العرب فيها التاريخ ولا يسجلونه فقط. وأقل ما يقال في الموقف الأميركي أيضا، والغرب عموما، هو أنه متناقض مع كل قيم الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، التي ما زالوا يوهمون العالم بأنهم يلتزمون بها، أو أنها ذات قيمة في سياساتهم وخططهم الاستراتيجية. فقد سقطت آخر ورقة توت من هذا النفاق الغربي، الذي دفع الشعب العربي أثمانا له منذ قيام الكيان الصهيوني في منتصف القرن الماضي. وأيقن كل عربي اليوم، أن المحرك الأساسي لسياسات الغرب في الشرق الأوسط، هو قيام إسرائيل بفرض هيمنتها على العرب، بهدف الاستيلاء على أرضهم، وسحق طموحات العرب في الحرية، والكرامة، والديمقراطية. والغربيون مستعدون من أجل ذلك أن يغضوا النظر عن قتل وتعذيب آلاف العرب في غوانتانامو، وأبو غريب، وسجونهم السرية، وأيضا أمام شاشات التلفاز في ميدان التحرير. ولا يعني لهم مئات الشهداء من العرب من أجل الحرية، وآلاف الجرحى شيئا، بل المهم بالنسبة إليهم هو استمرار استيطان اليهود لكامل فلسطين وحرمان شعبها العربي من الحرية، لا بل قد يكون البلاء الذي ابتلي به المتظاهرون في الشوارع وسقوط هؤلاء الشباب والشابات شهداء، من تخطيط هذه الدوائر الموالية للصهيونية العالمية. وأصبح العرب يعلمون علم اليقين اليوم، أن الغرب يوالي بعض الحكام العرب بقدر ما يوالون إسرائيل، وأن بعض الأنظمة العربية تنال رضا الغرب بقدر ما تنال رضا إسرائيل، وأن قرابة أربعمائة مليون عربي لا يعنون شيئا لأوباما، وأشتون وغيرهما من السياسيين الغربيين الذين أصبحوا صما بكما فجأة، وهم الذين كانوا سليطي اللسان على إيران أحمدي نجاد.

الهدف الأساسي من كل سياسات الغرب في المنطقة هو إسرائيل، ومن ثم مصالحهم في النفط، ونهب موارد شعوبنا عبر الأموال التي يبيضها الفاسدون من الحكام في مصارفهم وشركاتهم واقتصادياتهم. كما اتضح للجميع اليوم أن المنظار الذي يرى به الغرب العربي، هو المنظار الإسرائيلي، وهو الذي أعلنته غولدا مائير «العربي الجيد هو العربي المدفون ثلاثة أمتار تحت الأرض». ومن هنا يمكن لنا استذكار أن انحطاط العرب، ورداءة حياتهم، قد تناسبت طردا مع قيام إسرائيل وتوسعها المطرد في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد كان الكيان الصهيوني رأس الحربة في تشويه صورة العرب ووصمهم بالإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وكان الكيان أيضا رأس الحربة في التجييش لشن الحرب الأميركية على العراق، وشن حروبها على لبنان وغزة تحت حماية أوروبا والولايات المتحدة.

إن أناسا مثل إليوت أبرامز Elliott Abrams، وهو من عتاة المحافظين الجدد، قد قفز إلى الساحة ليثبت أن سياسات بوش كانت صحيحة، وأن بوش هو الذي سأل عن شعوب الشرق الأوسط، وما إذا كانوا غير قابلين للعيش بحرية، وما إذا كانوا محكومين بثقافتهم وتاريخهم للعيش في ظل الاستبداد (مقتبسا هذا من خطاب للرئيس بوش في نوفمبر / تشرين الثاني 2003). والجواب المصري اليوم، هو أن الشعب العربي يعلم العالم كيف يكافح من أجل الحرية، ولكن ليس على طريقة بوش الإجرامية، حيث تم قتل مليون إنسان من أجل سواد عيون إسرائيل. فقد نشط المحافظون الجدد ليبرهنوا على أنهم كانوا محقين في دعوتهم للحرية والديمقراطية، أي في شن الحروب على دولنا، وسرقة آثارنا، ونهب نفطنا، وتدمير أمننا باسم الحرية والديمقراطية، بينما هم حماة الطغاة.

والجواب الذي يقدمه الشعب العربي في مصر اليوم لأنصار أوباما وبوش، هو كفاكم سجالا، فالشعب العربي اليوم يتوق للحرية التي هي من صنعه هو، وبطريقته هو، ولأسبابه التاريخية والاجتماعية والمستقبلية هو، ولا ثقة اليوم بصداقات كاذبة، وعناوين وهمية، وادعاء باحتضان «القيم الغربية»، فقد تبين «الرشد من الغي»، ولن تتمكن أي قوة في العالم من خداع العرب مرة أخرى.

إن ربيع الحرية الذي حل على شوارعنا العربية، هو الحدث الأعظم في تاريخ العرب منذ ثورات التحرير الشعبية التي وضعت حدا للاستعمار الغربي وأنظمته العميلة، لأن التحرير اليوم هو لإرادة العرب النابعة من الإيمان بأن عصر الذل قد ولى، وأن فجر العزة والكرامة والحرية قد أشرق، وأي مكان أنسب لهذه الإشراقة من ميادين أم الدنيا؟!

إن ردود الفعل الغربية تدل على أن الغرب لم يستوعب الصدمة بعد، وهذا أمر طبيعي، لأن هذه الصدمة يجب أن تنقله من اعتبار العرب إرهابيين، إلى الاعتراف بأن العرب بناة حضارة، وأصحاب قيم، وأنهم يأبون الضيم، ويعشقون الحرية، ويموتون بكرامة من أجل الديمقراطية، وأن العروبة هي العنصر الجامع لهم، وهي المحرك لوجدانهم، ولن تستطيع قوة انتزاعها منهم.