هل نحن بحاجة إلى ثورات لنتصارح؟

TT

إحدى الصفات الطيبة التي يتحلى بها الغربيون بشكل عام هي أنهم يسمون الأشياء بمسمياتها الصحيحة، ولا يعتمدون على الحدس أو العواطف في إظهار الحقائق، ولا يلجأون إلى العبارات البلاغية والاعتبارات السياسية الفارغة لوصف حالة معينة، بل يقولون فيها رأيهم بمنتهى الصدق والصراحة دون لف أو دوران، لأنهم ببساطة يؤمنون بأن أقصر الطرق للوصول إلى الهدف وأضمنها هي الطريق المستقيم، فلا يمكن المساومة على هذه العادة الحميدة التي أثرت بشكل كبير في تطوير وتجديد مجتمعاتهم بالصورة المستمرة التي نراها، بينما نحن لا نملك هذه الجرأة في تشخيص الحالات المستعصية التي نعاني منها وهي كثيرة نظل ندور حولها و«نتنطط» أمامها ونركض من خلفها ونسايرها بالمجاملات والشعارات الرنانة التي «لا توكل خبزا ولا تشبع بطنا» نتحاشى دائما الدخول إلى صلبها للوقوف على أسبابها الحقيقية، فتتراكم المشكلات وتتعمق أكثر وعندما نعجز عن حلها بالطرق التقليدية «البدائية» المعروفة التي لا نملك غيرها، نلجأ إلى الدول الغربية «الصديقة» بما تملك من نظرة واقعية «حاسمة» للأمور لطلب النجدة، كما فعلت المعارضة العراقية عندما اضطرت إلى الاستنجاد ببريطانيا وأميركا للإطاحة بنظام صدام حين سدت بوجهها أبواب الحوار وقطعت بها السبل ولم تجد بدا غير انتهاج هذا الطريق «المعيب» وكما تفعل دائما في خلافاتها السياسية وصراعاتها المصلحية حول اقتسام السلطة.

أزماتنا الاجتماعية والسياسية التي تتفجر بوجوهنا من حين لآخر تشبه إلى حد بعيد أزمة من أصيب بمرض السرطان - أجارنا الله منه - دون أن يدرك حجم الخطر المحدق به فأدار ظهره للمرض العضال وأهمل علاجه وترك نصائح وإرشادات الأطباء ولم يعمل بها، وبعد أن استشرى المرض في جسده ولم يعد ينفع معه العلاج أخذ يصرخ ويولول ويستنجد بالقريب والبعيد لمساعدته ولكن بعد فوات الأوان. لدينا مشكلات متنوعة من كل صنف ولون، لا حصر لها وكلها تتعلق بالأخلاق وتصب فيها بشكل أو بآخر، الأمر الذي جعلنا نغوص في مستنقع فساد لا مثيل له؛ فساد سياسي وإداري وفساد مالي وكذلك فساد أسري وحضاري وقومي وديني وفساد اجتماعي وثقافي واقتصادي. فساد أخلاقي من جميع النواحي، جاء نتيجة تراكم الأخطاء القاتلة التي ارتكبناها من أول سماحنا لقادة الانقلابات بالتدخل في شؤوننا السياسية والتحكم بدقائق حياتنا اليومية إلى سكوتنا عن إدخال ثقافات تغريبية مدمرة عبر أفلام هابطة وكليبات «عري» مبتذلة إلى داخل كل بيت باسم الفن والجمال والثقافة الحداثوية الزائفة. النتيجة أن أصبح قادة الانقلاب العسكري ورجال الفن الهابط هم نجوم المجتمع وسادته يتحكمون في شؤونه ويقودونه إلى «حتفه»..

وما نراه اليوم في مصر وتونس ليس احتجاجا على البطالة وكبت الحريات فحسب إنما هو ثورة حقيقية على الواقع الفاسد الذي أوجده الانقلابان؛ انقلاب يونيو (حزيران) عام 1952 في مصر وانقلاب الحبيب بورقيبة عام 1957 وتوليه الحكم المطلق في تونس، اللذان ظلا يعوقان المجتمع من مواكبة الركب الحضاري وتطورات العصر من خلال قانون الطوارئ السيئ الصيت.. والمفارقة أن الشعبين المصري والتونسي انتظرا ما يقارب الخمسين عاما ليضعا يدهما على الخلل الكبير الذي أعاق مسيرة تقدمهما.. وهو؛ الديكتاتورية والحكم الفردي المتسلط على رقاب الناس، وبدآ يعلنان صراحة، ودون خوف من الأجهزة القمعية، أن الديكتاتورية مصدر كل الشرور والآفات، وأس الفساد، والأم الحقيقية للجهل والتخلف والقحط والمجاعة..

لأول مرة في تاريخ الأمة العربية يجرؤ شعب أعزل بسيط على مواجهة ثكنات عسكرية بكامل عددها وعتادها، ويتحدى العشرات من المؤسسات الأمنية المجهزة بكل مستلزمات القمع المنظمة، في ثورة هزت المنطقة وأفرزت مفاهيم سياسية وثقافية جديدة من أهمها ردم الهوة بين الشعوب والأنظمة بما يخدم الطرفين وعلى أساس من المصلحة المتبادلة والتفاهم المشترك وسرعة التصدي للمشكلات المتراكمة والقضايا العالقة التي تفضي إلى صراعات دموية في بعض الأحيان، وإبداء قدر كبير من العزم والنية الصادقة في معالجتها.. هذه الثورة التي لم يستطع الشعب العراقي أن يقوم بها إلا بمساعدة خارجية، وبهيمنة عسكرية واضحة، أشبه ما تكون بانقلاب عسكري منها إلى الثورة.. وما يحز في النفس أنه وعلى الرغم من مرور أكثر من سبع سنوات على تغيير النظام البعثي في العراق وتبديله بنظام آخر نيابي متفتح، ظلت مئات القضايا الخلافية والمشكلات التي خلفتها لنا الديكتاتوريات العراقية المتعاقبة تنتظر من الديمقراطيين الجدد الحل السريع، ولكن بدل أن ينصرفوا إلى البت في هذه القضايا المهمة التي استنزفت موارد ودماء العراقيين لفترة طويلة من الزمن، راحوا يخلقون مشكلات جديدة ويدخلون في نقاشات بيزنطية جديدة لا معنى لها بقصد تضليل الناس والهروب من حل المشكلات القديمة التي لا بد من حلها، سواء الآن أو بعد حين.. والسؤال متى نتعود أن نحل مشكلاتنا ونتصدى لها بفروسية الغربيين؟