الاستقلال سمة الكاتب الساخر

TT

كثيرا ما يفتش القراء ويحاولون معرفة انتماءاتي لأي حزب أو حركة أنتمي أو أتعاطف. هذه محاولة ضائعة منهم. فالكاتب الساخر لا يمكن أن ينتمي لأحد. وهو ما قرره معظم الكتاب الساخرين في التاريخ. أذكر في مقدمتهم المؤلف المسرحي البارع والنائب في البرلمان البريطاني في القرن الثامن عشر ريتشارد شريدان حين تكلم في المجلس ونطق بهذه الكلمات:

«لأجل أن يكون الإنسان قادرا على التصرف حسب ما تمليه عليه مبادئه، ينبغي عليه أن يبقى مستقلا. وليكون الإنسان مستقلا يتعين عليه بالتالي أن يكون غنيا جدا، أو بخلاف ذلك فقيرا جدا. ومع ذلك، فالاستقلال لا يتوقف على الثروة ولا النسب ولا المنصب ولا السلطة ولا الألقاب ولا المنزلة. الاستقلال شيء في ذهن الإنسان، وإلا فلا وجود له. لن يستطيع أي وزير أن يجد في شخصي عبدا مطيعا له. لن يستطيع أي وزير أن يتوقع مني التخلي عن أي مبدأ من مبادئي التي آمنت بها، أو أي عهد قطعته على نفسي. إنني لم أنسحب في أي ميدان عن الأفكار التي دعوت إليها في صفوف المعارضة».

وكل هذا الكلام يتماشى في الواقع مع ما آمن به كاتب مسرحي ساخر آخر تلاه في ما بعد على المسرح المسرحي والسياسي، وأقصد به ذلك المفكر اللاذع جورج برنارد شو، فرغم كل أفكاره الاشتراكية والتقدمية فإنه لم ينتم قط لحزب العمال أو أي حزب يساري آخر. وتحاشى الالتزام بالسياسات والبرامج الحزبية لبريطانيا، حرصا على استقلاليته.

والواقع أننا نجد باستمرار هذا التشبث بالاستقلال من جانب الكتاب الساخرين. إنهم أسوأ الناس بالنسبة لما يسمى بالضبط والربط الحزبي. إنهم عيون المجتمع المتربصة لكل عيب أو خطأ ولسان المجتمع في الإشارة لذلك وفضحه والسخرية منه. ولهذا نجد أن الكتاب الساخرين يترعرعون في الأنظمة الديمقراطية المعتادة على التعددية. يكفينا أن نتذكر أنه لم يظهر كاتب ساخر واحد في الاتحاد السوفياتي طوال تاريخه، ولا في ألمانيا النازية. وكان برخت، المسرحي الساخر قد كتب مسرحياته خارج ألمانيا النازية وقبل ظهورها ولم يكتب شيئا بعد عودته للعيش في ظل الحكم الشيوعي في ألمانيا الشرقية على الرغم من أنهم أقاموا مسرحا خاصا به.

بيد أن شريدان انتمى لحزب الأحرار، ولكن الحزب ظل ينظر إليه كرجل ليس أهلا للثقة فلم يعهدوا إليه بأي منصب أو مسؤولية. وربما كان ذلك من أسباب فقره المستمر. مما جعل الدائنين يودعونه السجن لعجزه عن تسديد ديونه. وعلى الرغم من أن أصدقاءه أسعفوه وأخرجوه من السجن، فإن مأمور الإجراء قصده ثانية وهو على فراش الموت ليحجز على أملاكه. بيد أن الطبيب أخبره بخطورة مرضه وأنه سيقاضيه بتهمة القتل إذا أخرجه للسجن وتسبب في موته. وبالفعل مات بعد أيام قليلة. وبينما حضر القوم لتشييع جنازته، اندس المأمور بينهم ووضع أمر الحجز على النعش ولم يسمح بدفنه حتى تبرع اللورد سدموث بتسديد الطلب. وهكذا أضحكنا بنكاته حيا، ثم دغدغ مشاعرنا ميتا.