مصر في حضانة العسكر

TT

للمرة الرابعة في نحو ستين سنة، يؤكد الجيش المصري شرعيته العسكرية. يسترد الاعتبار والمبادرة من المؤسسة الأمنية. تسلمه الإدارة المدنية يعبر عن تمسكه بدور سياسي، أو بالأحرى، تمسكه بـ«حقه» في تشكيل التوجهات السياسية والاجتماعية، للمرحلة الانتقالية التي قد تمتد إلى نحو سنة، على الأقل.

ملابسات نقل السلطة المدنية إلى العسكر تطرح أسئلة. نعم، حسم الجيش أخيرا موقفه المتردد. اختار الأسهل والأفضل. تخلى عن الرئيس «الممكن» إجباره على الاستقالة. انحاز إلى الانتفاضة «المستحيل» قمعها. تحت ضغط الجيش، اقتنع الرئيس بالانسحاب من الخندق الذي صمد فيه أسبوعين. أعلن نائبه اللواء عمر سليمان رسميا أن مبارك استقال، وسلم سلطاته وصلاحياته إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة.

ماذا حدث خلال الساعات التي أعقبت الإعلان؟ تبين أن السلطة المدنية نقلت إلى السلطة العسكرية، وليس إلى عمر سليمان. ماذا حدث لنائب الرئيس؟ هل نقل السلطة المدنية التي سلمها إلى السلطة العسكرية باختياره؟ أم أن المؤسسة العسكرية سحبتها منه؟

الغموض ما زال يكتنف ملابسات نقل السلطة. كان عمر سليمان قد حذر من «انقلاب»، قبل 24 ساعة من التحرك العسكري. قال إننا نعمل على تفاديه. بعدما فقد سلطاته المدنية، هل ما زال سليمان نائبا للرئيس؟ هل ما زال مديرا للمخابرات العامة؟ البلاغ العسكري (رقم 4) ثبت مؤقتا حكومة الفريق أحمد شفيق، من دون إشارة إلى اللواء سليمان.

أيضا، سبق لسليمان أن تلقى توبيخا شديدا من إدارة أوباما. عندما دخل سليمان في حوار مع قادة الانتفاضة والإخوان، قال ناطق البيت الأبيض إن ما قام به سليمان غير كاف للاستجابة لمطالب الانتفاضة. في حذره وتحفظه اللذين ربما أنهيا دوره كسلطة مدنية، كان سليمان قد أبلغ محاوريه أن مصر «غير مؤهلة، بعدُ، للديمقراطية». ورافضا إلغاء قانون الطوارئ.

على أية حال، كانت المؤسسة العسكرية حذرة. ومتحفظة. البلاغ (رقم واحد) لم يصدر عن مجلس ثورة. صدر عن «المجلس الأعلى للقوات المسلحة». وهو المجلس الرسمي التقليدي الذي يترأسه حاليا المشير سيد طنطاوي وزير الدفاع.

كان المجلس حكيما، في تقدير ظروف توليه السلطة المدنية. ولم يظهر الفريق سامي عنان رجل الجيش القوي، كقائد للمرحلة الراهنة. هذه الحكمة تنبثق من انضباط المؤسسة العسكرية المصرية، وفهمها للمتغيرات العربية والدولية غير المواتية لانقلابات عسكرية على السلطة المدنية.

في تفسير التركيبة البنيوية لقادة القوات المصرية، أقول إنها تنتمي إلى الجيل العسكري الذي خاض معظمه حرب أكتوبر (1973) كضباط. شباب صغار الرتب. ثم تدرجوا في الارتقاء، إلى المناصب العسكرية العليا، مع انتقال الجيش المصري من السلاح الروسي، إلى السلاح الأميركي.

هذه الانتقالية التي يمثلها، بالذات، الفريق سامي عنان (63 سنة) مشبعة بمزاجية وأفكار الطبقة الوسطى التي ترعرعت في عهد مبارك، من دون أن يعرف كيف يحتضن شريحتها المدنية، في حين حرص على إغداق الامتيازات والمكاسب على شريحتها العسكرية. ثم خص الجيش بكامل ما تبقى من المساعدة المالية الأميركية (1.5 مليار دولار).

تسليح الجيش المصري بأسلحة أميركية متفوقة على السلاح الروسي، سمح باحتكاك أكبر بالقادة والضباط العسكريين الأميركيين، بحكم عمليات التدريب. الصيانة. المناورات المشتركة. الزيارات المتبادلة. تمكن الأميركيون من نقل التقاليد العسكرية الأميركية إلى القيادات المصرية. تقاليد ممارسة النفوذ لدى الكونغرس والبيت الأبيض والطبقة السياسية، من دون تدخل مباشر وظاهر في السياسية.

وهكذا، فالمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية الذي يضم عددا كبيرا من قادة أسلحة الجو والبر والبحر، يختلف عن قياداته السابقة التي تربت وتدربت في روسيا. هؤلاء كمبارك. أحمد شفيق. عمر سليمان. تقاعدوا، لم تبق منهم سوى قلة قليلة، منها المشير طنطاوي وزير الدفاع.

انضباط الجنرالات الجدد الذين تأثروا بالليبرالية الديمقراطية الأميركية، ساعد على حسم ترددهم بين قائدهم وراعيهم مبارك، وانتفاضة الشريحة المدنية للطبقة الوسطى. فضلوا الانحياز إليها، تحسسوا آلامها، شكاواها، آمالها، طموحاتها، فسارعوا إلى تبني مطالبها.

الالتقاء بين الشريحتين العسكرية والمدنية يكاد يكون منطقيا في الخطوط العامة. لكن ليس في التفاصيل. القيادة العسكرية تصر على انسحاب الانتفاضة من ميدان التحرير. والعودة إلى العمل، خوفا من الفوضى والإخلال بالأمن. وركوب التطرف الانتفاضيين.

أما تيارات الانتفاضة فهي تصر على الحكم المدني، تطالب بضمانات من السلطة العسكرية للالتزام بتحقيق طموحاتها في حكم ديمقراطي. إلغاء قانون الطوارئ. ملاحقة الفساد. انتخابات نيابية ورئاسية حرة. حل مجلسي الشعب والشورى. دستور جديد. وفوق ذلك تحديد جدول زمني.

المجلس العسكري أكد مرارا على التزامه. قدم الضمانات. لكن ربط إلغاء الطوارئ باستتباب الأمن، والانسحاب من الشوارع والميادين. وافق على تشكيل مجلس حكم انتقالي أو رئاسي يضم مدنيين إلى جانب العسكريين. لكن الانتفاضة والأحزاب وتيار البرادعي المدعوم إخوانيا، تقترح مجلسا ثلاثيا أو خماسيا. يتمثل فيه العسكر بجنرال واحد.

لا شك أن تدخل الجيش شكل خيبة كبيرة لدى بعض الأحزاب والإخوان الذين حاولوا سلفا طمأنته بعدم رغبتهم في تولي الرئاسة والسلطة، بل عمدوا إلى إخفاء شعاراتهم الدينية، وصولا إلى القبول بـ«علمانية» الحكم، تخفيفا لشكوك أميركا وأوروبا.

ماذا عن التوجهات السياسية العربية والأجنبية؟ تقبلت العواصم العربية المختلفة النظام المصري الجديد. مع عتب وشكوك بإدارة أوباما (التي حققت نصرا تكتيكيا في مصر) للأسلوب السلبي الذي اتبعته في إزاحة رئيس عربي، إلى درجة أن السعودية وصفت الضغوط الأميركية بأنها «تدخل خارجي» في شؤون مصر الداخلية.

أميركا وأوروبا تلقتا بترحيب واطمئنان تأكيد القيادة العسكرية المصرية، على الالتزام بمعاهدات واتفاقيات مصر «الخارجية والإقليمية» بما فيها معاهدة السلام مع إسرائيل الذي يتوقع أن يظل باردا، مع احتمال إلغاء اتفاق تزويد الدولة العبرية بالغاز المصري.

سوف تمر مياه كثيرة تحت جسور النيل، قبل أن تهدأ البراكين المصرية والعربية. ما زلت عند رأيي، في ضرورة تسييس وتحزيب الانتفاضة. تحويلها إلى حزب ديمقراطي يبلور قيادة مستقلة، كاف لإلزام تياراتها بانضباط منفتح. كاف لتحديد مطالبها. توجهاتها. كاف لحمايتها من تطفل ذوي «القربى» المتربصين بها، سواء أولئك الأكبر سنا منها (البرادعي. أيمن نور. الوفد) أو «عواجيز» الإخوان المتلهفين لدخول «جنة» الحكم، قبل جنة الآخرة.

وإيران؟ حاول نجاد وخامنئي وحسن حزب الله ركوب الموجة. يؤيدون الانتفاضة في مصر. ويقمعونها في إيران! عاد زعيما الانتفاضة المقموعة حسين موسوي، ومهدي كروبي إلى قنينة الاحتجاز، خوفا من أن يقودا انتفاضة، على نظام «معصوم» قادر على إلقاء عشرة ملايين قسيمة انتخاب مزورة، في صندوق التجديد لنجاد، من دون تردد.