ثورة تنويرية لا أصولية!

TT

كان أمامنا نموذجان بارادوغمائيان للثورات: النموذج الفرنسي العلماني والنموذج الإيراني الأصولي الذي يعاكسه تماما. ثورة تمشي إلى الأمام، وأخرى ترجع إلى الوراء. والآن أصبح لدينا نموذج ثالث هو النموذج المصري. وإذا ما نظرنا إليه عن كثب وجدنا أنه لا هو علماني كليا ولا هو ديني على الطريقة الإيرانية. وإنما هو خليط بين بين. بل إنه أقرب ما يكون إلى النموذج الفرنسي التنويري. وهذا ما أدهش الجميع فلم يكادوا يصدقون أعينهم.

هذا ما كذب كل توقعات الغرب وهلوساته عن عالم العرب والإسلام. فبعد ثورة الخميني والجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر وبقية الحركات الإخوانية هنا أو هناك وكل الموجة الأصولية الهادرة في السبعينات والثمانينات كانوا يتوقعون أن تكون الثورة المصرية العظيمة صورة طبق الأصل عن الثورة الإيرانية ولكن بنسخة سنية هذه المرة. فإذا بها تجيء بوجه آخر أكثر استنارة وعظمة. لقد دمرت الثورة المصرية المعطاءة والمباركة هذه الكليشيه العتيقة التي أراد الغرب أن يسجننا فيها. كانوا يقولون لنا ما معناه: أنتم لستم ثوريين إلا بالمقلوب! أنتم تستعصون على الحرية والديمقراطية على عكس بقية شعوب الأرض. أنتم متعصبون في أصلكم وجوهركم ولا يوجد عندكم إلا الملتحون والمحجبات. نقطة على السطر. فإذا بالثورة المصرية الرائعة التي تشبه إشراقة الشمس في الدياجير العربية تجيء لكي تفند كل هذه الكليشيهات والهلوسات وترميها في مزبلة التاريخ. نفس الشيء يمكن أن يقال عن الثورة التونسية الكريمة التي سبقتها. وإذا بالغرب يشعر بتأنيب الضمير على الأقل ظاهريا. إذا بنخبه السياسية والثقافية تعترف بأنها أخطأت بل وأجرمت عندما دعمت أنظمة الاستبداد «المستنير» اتقاء للموجة الأصولية المرعبة. فالخيار الأول يمثل أهون الشرين.

عندما تفتح هذه الصفحة، صفحة التعاون الآثم بين الغرب والأنظمة البوليسية البائسة سوف نكتشف العجب العجاب. سوف نكتشف هذه الحقيقة المذهلة التي لا يمكن لأي شيء أن يعزينا عنها: ألا وهي خيانة الغرب للتنوير والحرية والديمقراطية وكل القيم الحضارية التي يتبجح بها صباح مساء ثم يمارس عكسها يوميا ويدوس عليها. هنا تكمن فجيعتنا الكبرى. إنها أكبر من فجيعتنا بالأصولية الظلامية. انظر كيف يشتمون حسني مبارك وينقلبون عليه بعد أن سقط.

قد يتساءل بعضهم وبحق: ما المتغيرات التي طرأت علينا لكي تحصل ثورة عفوية، طيبة، مفعمة بالنزعة الإنسانية كالثورة المصرية التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه؟ لماذا لم يرفع فيها شعار أصولي تكفيري واحد؟ لماذا لم تكن مذهبية أو طائفية؟ يبدو لي أن هناك سببين أساسيين لتفسير هذه الطفرة النوعية التي طرأت علينا ونحن نيام دون أن ندري. أولها فشل الثورة الإيرانية التي هي بحاجة الآن إلى ثورة معاكسة لإنقاذها من نفسها أو لإنقاذ الشعب الإيراني منها. ولذا فإن المرشد على خامنئي لم يكن موفقا على الإطلاق عندما أوهم بأن الثورة المصرية ما هي إلا تعميم للثورة الإيرانية أو استنساخ لها.

لقد برهنت التجربة الإيرانية وبقية التجارب الأصولية في السودان وسواها على صحة مقولة هيغل الشهيرة وهي أن العامل السلبي له أهمية كبرى في التاريخ البشري ولولاه لما توصلنا إلى الإيجابي ولما كان التطور والتحلحل. لا يمكن تجاوز أي عقدة أو أي ظلمة قبل المرور بها والاكتواء بحر نارها. بكلمة مختصرة ومفيدة: ينبغي أن تتعالج من الأصولية بالأصولية. وداوني بالتي كانت هي الداء. كلما قفزت عليها أو رفضت مواجهتها وجدتها أمامك تنتظرك على قارعة الطريق. ولكن ليس من الضروري أن نمر كلنا بالمرحلة الأصولية وندفع ثمنها لكي نستطيع تجاوزها. يكفي أن يحترق في أتونها شعب أو شعبان لكي تصبح عبرة لمن اعتبر. لهذا السبب لم تكن هناك أي علاقة بين الشعارات التي رفعتها الثورة المصرية وتلك التي رفعتها الثورة الإيرانية.

لقد فهمنا الدرس جيدا. حتى الإخوان المسلمين أو قياداتهم الشابة الواعية أخذت الدرس ولم تعد ترفع الشعارات التي كانت تملأ الأجواء إلى ما قبل عشر سنوات أو عشرين سنة فقط. لم نسمع شعارات تكفيرية لأحد أو لاهوتية توتاليتارية قروسطية. الجميع كانوا يدعون إلى التخلص من الاستبداد والفساد وتأمين لقمة الخبز وفرص العمل وتحقيق الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.. الخ. بهذا المعنى فإن تصريحات راشد الغنوشي في تونس أو عصام العريان وعبد المنعم أبو الفتوح في مصر أو أشباههم في بقية الأقطار لا تختلف كثيرا عن تصريحات قادة الشبيبة المصرية الذين فجروا الثورة. أصبح هناك إجماع لدى النخب الثقافية والسياسية العربية سواء كانت علمانية أم دينية على مجموعة مصغرة من المبادئ العامة. أليس هذا تقدما؟ من قال بأن الإسلام ضد الحرية والديمقراطية؟

أما السبب الثاني فيعود إلى عامل نميل أحيانا إلى إهماله أو التقليل من أهميته ألا وهو: أن التنوير العربي الإسلامي ابتدأ ينتشر في أوساط الشبيبة وينغرس عميقا في الأرض. صحيح أن الكتب الخرافية الصفراء لا تزال واسعة الانتشار وتشكل الغذاء اليومي للكثيرين. ولكن لا ينبغي أن نستهين بالجهود التي بذلها مفكر كمحمد الشرفي في تونس عندما كان وزيرا للتربية والتعليم طيلة خمس سنوات في عهد بن علي. فقد ملأ برامج التعليم بالأفكار التنويرية عن تراثنا العربي الإسلامي وهمش الأفكار السلفية أو الظلامية. وقل الأمر ذاته عن حركة التنوير المصرية بدءا من طه حسين وانتهاء بجابر عصفور مرورا بنجيب محفوظ ومحمد مندور والنويهي وأحمد عبد المعطي حجازي وعشرات المثقفين الآخرين. كل هذا فعل فعله وولد لنا جيلا جديدا مدهشا حقا في ميدان التحرير. لا ريب في أن المسألة لم تحسم بعد. ولكن التنوير العربي الإسلامي أصبح حقيقة واقعة والمستقبل له دون أدنى شك. حقا لقد ابتدأ التاريخ يتنفس الصعداء في أرض العرب. صحيح أن الوحدة العربية لم تتحقق. ولكن من يستطيع أن ينكر وجود شيء اسمه: العالم العربي؟ نفس الهموم من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق ونفس التطلعات. نفس الزخم التاريخي الصاعد من الأعماق. وعندما يهضم العرب الحضارة ويسيطرون عليها علميا وتكنولوجيا وفلسفيا وإنسانيا فسوف يكون لكل حادث حديث..