كشف المستور!

TT

الرئيس المصري السابق حسني مبارك طيار حربي، مهنته وهمه الأساسي أن يكون قابعا في مكان ضيق على ارتفاع آلاف الأمتار ويتفادى طلقات النيران. هذه هي العقلية الأساسية له، ولكنه لم يقرأ الأحداث جيدا وغيَّب عن مكتبه ودائرته المقربين العقلاء والحكماء والأمناء من الشخصيات المتزنة، فأبعد أسامة الباز «الداهية» السياسي، وأبعد كمال الجنزوري أحد الرجال الشرفاء المحترمين والذي كان أصدق وأكثر رؤساء الوزراء محبة وشعبية في الشارع المصري، وحجب دور عبد السلام محجوب المحافظ الإداري الناجح، وغيرهم من النماذج، وذلك لحساب دائرة ضيقة، كل هدفها التمهيد والاستفادة من مشروع توريث جمال مبارك لمنصب الرئاسة، ولكن صدق الحق - سبحانه وتعالى - حينما قال في كتابه المبين: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزوَاجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أجراس الإنذار كانت مدوية منذ فترة عن كوارث قادمة بحق مصر، والفن والأدب المصري كان يصرخ محذرا، أفلام المخرج المصري خالد يوسف: «هي فوضى» و«حين ميسرة» و«دكان شحاتة»، كانت توضح بشكل مفزع ومقزز وجريء حجم الضرر والفقر والفساد والتباين الاجتماعي الموجود في المجتمع المصري، وانتشار مجمعات العشوائيات وتحولها بمثابة قنبلة موقوتة تستعد للانفجار بسبب الوضع الخاطئ والخطير جدا، وطبعا هناك الرواية العبقرية للطبيب المصري علاء الأسواني «عمارة يعقوبيان» التي تحولت هي الأخرى لاحقا إلى عمل سينمائي ناجح، أوضحت علاقة المال الفاسد بالسلطة المفسدة، والانقلاب الاجتماعي المذهل والتطرف والمخدرات والاستغلال والذل الذي بات من علامات الشارع، وتبع الأسواني هذا العمل برواية أخرى باسم «شيكاغو» مليئة بالإسقاطات عن الفساد، وشراء الذمم في الانتخابات، والتسلط الأمني. وكتب الأسواني كتابه المهم الذي تضمن مجموعة من مقالاته السياسية اللافتة، وعنون الكتاب بعنوان عبقري استشرافي للمستقبل «لماذا لا يثور المصريون؟». حتى المسرح الشبابي هو الآخر كان له دور، فقدمت مجموعة من الشباب غير المعروفين، بمسرح دار الأوبرا الصغير مسرحية رمزية قصيرة، لم يدم عرضها لفترة طويلة باسم «قهوة سادة» تحكي بشكل مقارن التاريخ المصري وما آلت إليه الأيام والأزمنة في العصر الحالي. علاقة المال بالسلطة، واستشراء توظيف أهل الثقة والمحسوبية والأنصار على حساب أهل الكفاءة والذمة، واستشراء الفساد والتسلط الأمني وسلب الحقوق وابتزاز الناس وكتم الأفواه، ليس بحالة مصرية حصرية أبدا، ولكن المسرح المصري كان الأكبر والأكثر تفاعلا ومفاجأة.

الناس لا تزال تكشف عن «أحجام المصايب» التي كانت في مصر من تسلط وفساد مهول. مع ازدياد قناعة الناس بأمل الغد، يزداد المواطن ثقة بنفسه بعد أن انكسر حاجز الخوف وعادت إليه كرامته، وعاد للإعلامي حقه في الحديث (مع الاعتراف بأن الحماس أحيانا يكون على حساب الدقة في المعلومة والتفاصيل). سيكون بالإمكان تحقيق معدلات مراقبة ومكاشفة ومحاسبة ومشاركة، وعلاقة متوازنة بين السلطة والمواطن بدلا من علاقة السيد بالعبد. آخر عقد من حكم حسني مبارك كان عقد التوريث لابنه، سُخرت الدولة بمؤسساتها لتأهيل جمال مبارك، مما ولد سخطا متصاعدا على النظام وأنسى الناس الكثير من المزايا والإنجازات اللافتة لحسني مبارك في أول عقدين من حكمه، ولكنهم تناسوا أنهم يحكمون بلدا كبيرا ثار على فراعنة من قبل لأجل الحرية، يصبر ولكنه لا ينكسر.

مصر وما حدث فيها، قصة لم تنته كل فصولها بعد.