على كرسي في المقهى العتيق

TT

مساء ضجر بدا قمره عابسا متجهما كوجه مغولي وصله للتو نبأ موت «جنكيز خان»، حتى رياحه تقافزت في الدروب كأنها خطى قرصان جف البحر من تحت قدميه، والطريق لا ينتهي وكذلك الأيام. يمم صوب المدينة العتيقة، كل الشوارع تؤدي إلى هناك، وهناك لا يتسع لكل ما تأتي به الدروب، فالأزقة النحيلة الذابلة قد تقوست ظهورها فبدت كعلامة استفهام.

حسناء تموسق الرصيف بكعب حذائها فتداعى إلى ذهنه ما قاله الفنان محمد عبد الوهاب: «الكعب العالي أهم اختراع بشري!»، حول اهتمامه للاستماع إلى قرع نعليه المهترئتين، فهالته الجلبة التي أحدثها في الشارع، طخ.. طرخ.. ططخ، وارتبكت خطواته، فتوقف أمام رجل على الرصيف يبيع الثقافة بقروش، ابتاع منه صحيفة عمرها ربع قرن، قرأ فيها: إن جدة التاريخية ستصبح وجهة السياح، وملهمة الفنانين، وعشاق الآثار. حك بأظافره أطراف صلعته، وهو يتذكر أنه قرأ مثل هذا الكلام في جرائد هذا الصباح، لا بأس فجدة تعيش في ثلاجة الزمن منذ عقود، تدور حول مشكلاتها كجمال المعصرة، تحاصرها هواجس السيول، والتلوث، وحمى الضنك، وتنفرد صباحاتها دون مدن الأرض بحاويات المجاري، تسرح وتمرح في شوارعها، وتسكب على دروبها ما فاض من حمولتها، ومسؤولو الأمانة يتوارثون التصريحات القديمة، يسكبونها على قارعة الصحف، فتتلقفها ذاكرة موغلة في النسيان.

على كرسي في المقهى العتيق، سكب في جوفه ثلاث كؤوس من الشاي «المنعنش»، وهو يتأمل شموخ مئذنة الجامع العتيق التي بلغ عمرها مئات السنين، وقد حلقت فوق هلالها غيمة وسرب حمام، فتعالى صوته بأغنية قديمة لفوزي محسون سكبها ذات زمن في هذه الدروب:

«يا شارع حبيب الروح الروح

عمّالي أجي وأروح

مستني حبيبي يطل

مستني بسري أبوح»

فأحزنته تلك «الرواشن» التي هجرتها الشموس والأقمار، وجف من دروبها صوت المغنين.

تذكر جوابا لجان كوكتو حينما سئل:

- إذا شبت النار في بيتك ماذا تحمل؟

فقال على الفور:

- النار.

فغادر المقهى حاملا جدة في القلب.

[email protected]