حين تصنع الثقافة ثورة

TT

في السنوات والعقود الماضية كانت الثورات تصنع ثقافة جديدة في المجتمع، ثقافة أحياناً كثيرة تكون طاردة لما قبلها، محاولة أن ترسم نسقا جديدا للمجتمع، متخذة من السلطة كوسيلة ضغط أولية لبناء هرمية ثقافة السلطة وتأسيس مفاهيم جديدة للمجتمع، وبالتالي محاولة إنشاء منظومة ثقافية لهذه «الثورة»، واعتدنا، نحن العرب، أن نتبع آليات تقليدية في الثورات لا تتعدى استخدام الدبابات والجيش وإصدار البيان رقم واحد الذي عادة ما يكون مكتوبا من قبل العسكر ويتلى من قبلهم.

في المشهدين التونسي والمصري والمشاهد العربية القادمة هنالك ثقافة تصنع الثورة، مشهد يؤكد أننا على أبواب ثقافة عربية جديدة تكتبها الثورات الشعبية؟ وكيف يمكن أن تكون تداعيات ثورتي تونس ومصر على المشهد الثقافي للجيل العربي الجديد المتسلح بآليات العصر وحداثته وسرعته وتكنولوجيته؟

من الواضح لكل متابع بأن ثمة مسارات جديدة يكتبها الشباب العربي، وثمة بيانات تصاغ وتذاع يوميا ولكن ليس عبر الآليات التقليدية والإذاعات ومحطات التلفزة الرسمية، بل من خلال الإنترنت والمحمول، إنها آليات العصر التي هزمت «البوليس» و«المسيل للدموع» والمخبر السري والجنرال المتمرس، آليات أجبرت النظم السياسية على أن تكون متفرجة فقط لأنها لا تمتلك ما يردع الأسلحة التي يحملها هؤلاء الشباب وهي أسلحة عابرة للقارات بكل معنى الكلمة.

ثورات الشعوب هذه قامت لتبني إنسانا جديدا، يرفض تكميم الأفواه منذ الصغر، ويرفض ثقافة السلطة القائمة على تصغير الكبائر وتكبير الصغائر، ثقافة السلطة كانت تنظر للملايين المحتشدة في ميدان التحرير على أنهم «شوية شباب يعبثون»، وقبل هذا كانت تصم آذانها من نصائح المقربين من عدوى انتقال ثورة الياسمين واصفة هذا بـ«كلام فارغ»، جواب غير مقبول في زمن بات فيه كل شيء ممتلئا، حتى الفراغ ذاته لا فراغ فيه، كله مكتظ وقابل للانفجار في أية لحظة.

ومن الخطأ الكبير أن ينظر البعض للانتفاضات الشعبية على أنها ستغير نظاما سياسيا بآخر، لأننا بهذا سنهضم حق الثورات كونها تسعى لتأسيس ثقافة جديدة بعيدة كل البعد عن ثقافة الحزب الواحد والقائد الواحد، إذن هي ثورات على ثقافة الاستبداد، الذي تكون من عواقبه انحلال المجتمع وترهل الدولة وتفشي الفساد الذي يصل أحيانا كثيرة لمصادرة لقمة الخبز من أفواه الجياع ومصادرة الكلمة بكل حروفها.

هذا الجيل العربي الجديد المتهم من قبل الكثيرين من رموز الأنظمة العربية بأنه «جيل يلهو» وجيل عابث، وجيل لم يعش فترات نضال وغيرها من التعبيرات التي تحاول قدر الإمكان الحط من هذا الجيل العربي، وتحاول هذه الأنظمة بطريقة أو بأخرى مصادرة حتى ثقافة هذا الجيل وآلياته ومحاولة إبقائه يدور في فلك ثقافة «الحزب الواحد» و«صحف الحزب» حاجبا الإنترنت، مصادرا حرية الرأي والتعبير، متناسيا أن العالم يرى ويشاهد ويسمع وينصح أحيانا.

فقطع الإنترنت في مصر لأيام لم يجعل الثورة تخمد ويذهب المحتجون لبيوتهم، لسبب بسيط هو أنهم ثائرون على هذا الوضع ولم تكن ثورتهم لمجرد اللهو والعبث وتصويرهم من قبل الفضائيات، والإصلاحات التي طالبوا بها أغلبها تقود لإصلاح ثقافي من شأنه أن يعزز فرص نجاح الإصلاح السياسي والاقتصادي، وربما بعد عام من هذا سنجد في المناهج الدراسية الجديدة في تونس ما يؤرخ لمحمد بوعزيزي، يؤرخ بشكل صادق، لأن جيل بوعزيزي ما زال موجودا يطالع تاريخا كان هو جزءا منه وصانعا له. في مصر ستدخل الانتفاضة الشعبية التاريخ، لن تحتاج لرواة وتصديق وإثبات، لأن جيل الثورة موجود، وسيمتد به العمر طويلا لأنه سيكون أكثر عمرا من جيل السادس من أكتوبر الذي حطم خط بارليف واكتفى، بينما جيل بوعزيزي، جيل المدونات وجيل «الفيسبوك»، حطم حاجز الخوف المزروع في داخلنا جميعا ومنحنا فرصة أن نفكر بصوت عال دون أن نجهد أنفسنا بالاختباء خلف أسماء مستعارة خشية أن تطاردنا الشرطة السرية ومخبريها المنتشرين في كل المدن العربية.

هنالك ثقافة جديدة لكنها لا تنسف وتطارد ما قبلها لأن الثقافة القادمة ليست على دبابات العسكر ولا على شيفرات المخابرات، بقدر ما هي ثقافة شعب حمل كل مشاكله وانتفض ليغير كل شيء فاسد.

* كاتب عراقي