مرض الفن

TT

الفن مرض عضال لا ينشب مخالبه في مخلوق إلا قلب حياته، أحيانا شر مقلب وأحيانا خير مقلب. زميلي الرسام العراقي يوسف الناصر ممن أوقعه شر مقلب. دار به هذا المرض من ديرة لديرة حتى وجد نفسه في بريطانيا. لم يفعل ما فعلته أنا وما فعله الكثيرون من المشردين العراقيين من أن نضرب حقنة ضد هذا الداء ونشق لأنفسنا طريقا جديدا. يوسف الناصر غرس المرض في لحمه وشحمه وعظمه.. لم يجد مخلصا منه، ولم يجد محلا يرسم ويزاول مهنته فيه.. راح يلف ويدور في لندن. وأين يذهب المواطن العراقي عندما تضيق به الدنيا؟ يذهب للمقابر. وهو ما فعله زميلي، فوجد في مقبرة «ايلنغ» مبنى خربا مهجورا، ربما كان مخزنا للتوابيت أو مسكنا لحفاري القبور.. تفاوض مع البلدية على استئجاره بمبلغ رمزي على أن يعيد إحياء المبنى ويحوله إلى مرسم ومركز للفن. جمع حوله عددا من الفنانين وعلى رأسهم الخزافة دلال المفتي.. انكبوا لنحو سنتين يهدمون ويبنون ويصلحون، كلما احتاجوا لخشب أو حجر، بحثوا في المقبرة حتى عثروا عليه واستعملوه.. تحولت الخرابة إلى مبنى استوديو عصري وجميل أطلقوا عليه اسم «غاليري آرك» راحوا ينتجون فيه ويدرسون الفن وينظمون برامج ثقافية عن الفن والموسيقى في العراق والشرق الأوسط.

تحول الـ«آرك غاليري» إلى مركز من أهم مراكز الفن الشخصية في لندن. ولكن، آه. قال الشاعر: ترقب زوالا إذا قيل تم. فما إن رأت البلدية ذلك حتى ادعت بالمبنى وطردت منه الزميل الفنان وأعطته مكانا حقيرا بديلا عنه. لم يفقد عزيمته، وواصل برنامجه ومساعيه يتنقل من مكان لمكان كالقطة الحامل. كان آخر ما قدمه قبل أيام قليلة محاضرة للروائي الليبي أحمد الفقيه.

كنت في مناسبات عديدة قد أشرت إلى أهمية المبادرة الشخصية.. تتجلى أهميتها بصورة خاصة في عالمنا الذي سيطرت عليه الأنظمة الدكتاتورية، وفي هذه الأيام الإسلامجية، التي تكره الفنون بل وتحرمها. سبقه إلى ذلك استاذنا الكبير د. محمد مكية الذي أقام ذلك المركز الثقافي الشهير في لندن «ديوان الكوفة» وتحدى به صدام حسين. وتلاه في الأيام الأخيرة الشيخ حسين الصدر بتأسيس «دار السلام»؛ مؤسسة الحوار الإنساني في لندن أيضا. بيد أن كلا المحسنين بيدهما ما يكفي من المصادر المالية لتحقيق هذا العمل المفيد. ما تميز به يوسف الناصر هو أنه لم يكن في جيبه باوند واحد يستطيع الاستغناء عنه لتوظيفه في هذا المشروع. في حين استطاع زملاؤه الآخرون من المغتربين العرب أن يتوجهوا للكسب والعمل والتجارة وفتح المطاعم والمتاجر، ويتحول بعضهم إلى مليونيرية، ظل هذا الفنان الفريد يجاهد من مسكن حقير يفكر في تقسيم الباوند بين الأكل والرسم من دون أي دعم من أي نظام أو فرد أو مؤسسة.

ألست مصيبا عندما أقول إنه مبتلى بهذا المرض؟ ولكنه مبتلى بأمراض لا تقل خطورة: حبه للعراق، إيمانه بالشعب العراقي، سعيه لنشر الفكر العربي في بريطانيا.. وكله من مركزه المتواضع «غاليري آرك».